الدولة الخليجية الموحدة قبل إسدال الستار
8 رجب 1431
أمير سعيد

[email protected]
لا يعتريني شك أن المفكر الكويتي المعروف د.عبد الله النفيسي يدرك أن دعوته للوحدة الخليجية الكونفيدرالية المتدرجة لن تجد آذاناً صاغية، أو تلقى اهتماماً يذكر من معظم دوائر صنع القرار الخليجي، لكنه ألقى حجره في المياه الراكدة رغبة في أن يوجه "النداء الأخير" للمعنيين لاعتبار أن التأخر عن طرح أفكاره لسنوات وربما لشهور قادمات سيخرجها من حيز السياسة إلى صفحات التاريخ، ومن بناء الاستراتيجيات إلى الدروس المستفادة والعبر من الماضي القريب..

 

والواقع أن الرجل لم يقدم رؤية خيالية في مضمونها لكن كثيراً من المستقبلين أنفسهم هم أصحاب الخيال الواسع، وأوهامهم ستبقى تقودهم إلى السيناريو المعروف والمعد بشكل واضح وحتمي للاندثار والذوبان ومغادرة الخارطة.. ما قاله في حقيقته ليس جديداً وهو بذاته طرح بسيط لحد يجذب إليه الاتفاق الشعبي والنخبوي معه، ويخرج الجميع من الرؤية الضيقة القطرية إلى أفق الوحدة الذي يحلم به كل راشد عاقل في أمتنا.

 

على أن هذه الوحدة المقترحة ـ مثلما ورد على لسان د.النفيسي ـ لا تماثل تلك التي رنا إليها المعتمد بن عباد حين قال لما دهمه الروم بالأندلس: "لأن أرعى الإبل عند ابن تاشفين خير لي من أن أرعى الخنازير"، حيث يتسم الطرح بالواقعية في التعاطي مع خصوصيات كل دولة خليجية صغيرة، ورغبة أهلها في حكم أنفسهم بأنفسهم، و"عدم انتقاص سيادتها"، ولا يقفز فوق حدود الاختلافات غير الجوهرية التي تحكم العلاقات الخليجية الخليجية، لكن مع كل هذا فالمسألة لا تتعلق بمدى القدرة على إنكار الذات لدى الحكومات الخليجية بقدر ما تتعلق بطبيعة المحددات التي تحكم السياسات الخليجية الخارجية ومقدار الضغوط التي ستتعرض لها إن أقدمت على خطوة كهذه، لاسيما فيما يتعلق الأمر بالولايات المتحدة وبريطانيا وإيران على وجه التحديد كلاعبين أساسيين بوسعهم ـ بسهولة ـ كبح أي رغبة في مجرد الحديث أو مناقشة تلك الفكرة إن هي طرأت على أذهان بعض ساسة الخليج.

 

ورثت الاستراتيجية الأمريكية في الخليج، والكل يعرف، نظيرتها البريطانية القائمة على سياسة "فرق تسد"، ولم تجافها كثيراً في تلك السياسة، وعملت على إجهاض أي مشروع وحدوي فاعل يمكن لمجلس التعاون الخليجي القيام به، وترفض تطوير أدائه ليصبح قوة اقتصادية أكثر فاعلية، وهي تحبذ التعامل مع حكومات ضعيفة على التعامل مع واحدة قوية تحمل تطلعات قطرية واقتصادية كبيرة.

 

لا الولايات المتحدة ولا بريطانيا ولا إيران ستسمح بمجرد التفكير في هذا الحلم الخليجي، كما لم ولن تقبل تلك الدول وغيرها أن تتطور العلاقات العربية/العربية لما هو أبعد من حدود المؤتمرات العقيمة واللجان الميتة، والجميع يتلاقى عند هذا الهدف، ويتأكد الأمر أكثر كلما زادت حاجة الدول "الاستعمارية" للدول الخليجية الغنية للخروج من خناق الأزمات الاقتصادية المتلاحقة التي تكاد تعصف بالاقتصاد "العالمي" لولا تدخل الخليج لإنقاذه.

 

الدول الخليجية وفقاً لأي تقدير موقف تعيش وضعاً حرجاً، ودوائر صناعة القرار فيها لا تجد هامشاً واسعاً للتحرك، والذين يدعونها إلى الانتباه إلى مطامع إيران لعل بعضهم لا يدرك أن كثيراً من ساستها يدركون حقيقة الخطر لكنهم يعلمون من جانب آخر أن واشنطن ولندن وحتى تل أبيب ليسوا في وارد السماح لهم بتأمين ذواتهم بأنفسهم، ويستخدمون فزاعة إيران لمزيد من الابتزاز والاستنزاف، وليس سراً أن تلك العواصم تضع كل ثقلها وراء تقوية الأقليات الموالية لطهران في دول الخليج الصغيرة، وتحول دون المساس بقياداتها المتمردة ـ أحياناً ـ ولهؤلاء حصانة لا يحوزها أي معارض من الغالبية أو حتى صاحب رأي مخالف، والجميع يدرك أن بعض التصريحات والمواقف غير الوطنية بالمرة التي يتخذها هؤلاء لا تلقى ردات فعل مكافئة من الدول الخليجية، كما يدركون النفوذ الصاعد إعلامياً واقتصادياً للموالين لإيران في دول الخليج، كما لا يخطئ الدارسون للحالة الإعلامية هذه الأيام، ماهية الجهات التي تتعرض لمضايقات وصعوبات بالغة وتضييق يبدأ من التمويل ولا ينتهي عند البث، ومن تلك التي تفتح لها الأبواب على الغارب.

 

وما الاقتصاد الإيراني الصاعد في الخليج داخل تلك الدول ببعيد لاسيما عندما أدت هزات المال في بورصات الدول الخليجية الصغيرة إلى عمليات بيع مقننة، ناهيك عن أن الملف النووي الذي يسير حثيثاً فيما يبدو ويتوقع باتجاه الإعلان عن قنبلة نووية إيرانية، بما يستتبعه فوراً من محاولة استثمار الهلع الناجم عن ذلك لدى بعض العواصم في التسويق لموضوع إنشاء مفاعلات نووية باهظة التكاليف في دول لن تستطيع في أكثر سيناريوهات المستقبل تفاؤلاً أن تستخدمه كسلاح ردع على افتراض نجاحها الافتراضي في تحويله من سلمي إلى عسكري!!

 

مفردات القوة قد تحصل لدولنا الخليجية إن هي أدارت معركتها القادمة بحكمة أكبر، ونظرت إلى عناصر قوتها وضعفها نظرة واقعية وليست انهزامية، وهي بوسعها أن تفعل أكثر من وضع مدخراتها في خزائن الغرب اتقاء لشر لن يزول أبداً بل إنه قاب قوسين أو أدنى منها، ولعل من المفيد أن تضع تلك الصرخة الأخيرة محل دراسة وتمعن لأن الوقت لا يمر بصالحها، وفي الحلقة الأخيرة لن يمكن تغيير السيناريو الذي وضعه السيناريست الأمريكي، ومشروعات إعادة رسم خارطة الخليج لم تعد كسايكس بيكو مرسومة بالقلم الرصاص، بل وضعت بالفعل على الطاولة، وليس من العقل انتظار تنفيذها اعتماداً على الثقة الجارفة الممنوحة لأول من يبيع تلك الدول في "البازار".

 

وقد يكون لدى بعض الشرائح في المجتمع الخليجي تحفظات على الاندماج المتدرج بالنظر إلى الثقافات التي ابتعدت بالفعل بين الشعوب الخليجية بالنظر إلى اختلاف القوانين والمناهج التعليمية و"الانفتاح الاستثماري والسياحي"، لكن ذلك كله ليس هو المعوق الرئيسي للوحدة المقننة التي اقترحها د.النفيسي، وإنما ستقف الاستراتيجيات المناوئة مانعاً كثيفاً أمام مجرد مناقشة هذا المشروع، والأكثر تأثيراً في تلك المسألة أن الدولة الخليجية الواحدة قد تحمي الدول الصغيرة لكن بالتأكيد ليس بوسعها تقويض المطامع المتشعبة والكثيفة للآخرين إقليمياً ودولياً، ولعل تفكيراً أوسع من ذلك يشرك دولاً أخرى ربما يقلل من حظوظ القوى الأخرى في التأثير على القرار الخليجي.