إفلاس حداثيينا
27 جمادى الأول 1431
عبد الباقي خليفة

تسود الغربَ حالةٌ من الإحباط الشديد بسبب إخفاقات الحداثة ومآزقها المستحكمة، وهو واقعٌ يفسّر إقدام كثير من مفكري الغرب الكبار على نقد الحداثة المفلسة بل نعيها، والبحث عن خيارات بديلة.. لكن هذا المسلك الفاعل يقابله حالة من فقدان التوازن لدى الحداثويين في البلاد الإسلامية، والتي كانت مختلة أصلاً. فعوضاً من أن يراجعوا مسلماتهم السابقة التي بدأ التشكيك فيها داخل منابعها الأصلية، تشبثوا بها أكثر. وعمموا مفهوم الفن على الحياة بأسرها، متجاهلين أن الثقافة والسياسة والاجتماع ميادين علم لا ترسم كما ترسم اللوحة. والمفهوم اللغوي يكون خداعاً غالباً، إذا لم يضبط بالمصطلحات الدلالية، وتناقش هذه المصطلحات مناقشة علمية مستفيضة، تزيل الغموض عن الطلاسم المخفية وتزيل عناصر الالتباس. فالعلمانية أو العالمانية لا تعني العلم، والحداثة لا تعني التجديد أوالجديد. وما يستجد لا يفصل الملايين بالضرورة عن تاريخهم وعاداتهم، بدليل احتلال الصهاينة لفلسطين بمقولات تاريخية مرفوضة علمياً. بل نجد الجديد في المقابل يتجلى في عودة الصينيين إلى ما قبل الشيوعية وإحياء التراث الإمبراطوري، وعودة المعسكر الشرقي إلى جذوره الأرثوذكسية، وعودة الدين إلى السياسة الغربية، وهي من أكبر مظاهر ما بعد الحداثة.

 

أما التغييرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فهي جارية منذ أوجد الإنسان على الأرض وستستمر إلى ما شاء الله،ولا أحد يجادل في ذلك، رغم كل المقولات التضليلية. ولكن ولأسباب إيديولوجية اختُرِع اسم الحداثة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر لمحاربة الكنيسة، واتخذ طابع الإيديولوجية أو الدين كما يبدو من حماس الحداثويين عندنا. وكما تتحدث المصادر فإن هناك من يربط الحداثة باختراع غوتنبرغ لآلة الطباعة عام 1436 م وهناك من يربطها بالثورة اللوثرية داخل الكنيسة سنة 1520 م وهناك من يربطها بالثورة الفرنسية سنة 1789 م وغيرهم بالثورة الأمريكية سنة 1776 م والبعض يربطها بظهور كتاب سيغموند فرويد " تفسير الاحلام " سنة 1895 م. ولا نعرف إن كان من حسن الحظ أو سوئه أن يختار الحداثيون العرب، ولا سيما في المغرب الإسلامي، الثورة الفرنسية كمرجع لحداثويتهم رغم دمويتها وتصفية الثوار بعضهم بعضا من كاميل ورولان إلى روبسبيير.

 

أما الحداثة البريطانية فإنها جعلت الملكة حامية وحارسة للنصرانية. وإذا عدنا لمقولة كانط عن الحداثة سنة 1784 م وهي " خروج الإنسان من حالة الوصاية التي تسبب فيها بنفسه والتي تتمثل في عجزه عن استخدام فكره دون توجيه من غيره " نجدها تتوافق تماما مع نداء التوحيد " لا إله إلا الله " والتي تعني خروج الناس من عبادة العباد والأشخاص إلى عبادة رب العباد.

 

وإذا كانت العدالة الاجتماعية والمساواة هي ديدن من يوصفون بآباء الحداثة في الغرب، كديكارت، وتوماس مور، وكانط وماكس ويبر وغيرهم، فإن الحداثويين عندنا ليس لهم أي نصيب على هذا الصعيد، لا سيما بعد انهيار الكتلة الشرقية وسيطرة الرأسمالية المتوحشة على العالم.

 

كان نيوتن في القرن السابع عشر الميلادي يؤمن بأن الله خالق الكون، وأنه هو الذي خلق قوانين الفيزياء الحركية أو الميكانيكا، إلا أن فهمها أو دراستها يمكن أن تتطور بدون العودة إلى الإنجيل. وهذا ما يقوله الإسلام، فالقرآن يدعو للتدبر والتفكر والارتقاء في المعرفة و" لو تعلقت همة المرء لما وراء العرش لناله " وهو كما نفهمه يتحدث عن قوانين الميكانيكا، خلاف ما كان يحدث في النصرانية. لذلك نحن لسنا في حاجة لإيديولوجية حداثوية قطعاً.

 

الإسلام يثبت أن قوانينه الاجتماعية، ومبادئه الاقتصادية، وهديه في السياسة قادرة على العطاء الفذ وجاهزة لدحض أباطيل البشر، مما يجعله القيمة الحضارية لما بعد الحداثة في الغرب والشرق على حد سواء. والإسلام ليس ضد الحوار ومناقشة قيمه، وليس ضد العقلانية بمفهومها اللغوي غير الإيديولوجي أو بالأحرى الديماغوجي. ويؤمن الإسلام بأن الإنسان يمكنه أن يستوعب كيفية عمل الأشياء ويمكنه أن يغيرها. وتعاليم الإسلام لا تقف حجرة عثرة أمام العلم والبحث، ويمكن مراجعة أي شيء على ضوء العلوم الصحيحة، بالتأويل، ودون الحاجة للصدام بين العلم و( الإيمان ) كما حدث في الغرب. ولذلك يجب على الحداثة أن تأخذ منحى آخر في بلاد المسلمين. ومع تراجع إطلاقات داروين وفرويد ونيشه ودوركايم، وأمثالها من الإطلاقات الضالة يكون من اللاعقلانية عدم إعادة النظر في المقولات المتعلقة بالحداثوية.

 

لا يجب نقد الحداثوية فحسب، بل يجب أن تعدد الجرائم التي ارتكبت باسمها ضد المسلمين. فالحداثة في الغرب ( الجانب الديماغوجي والفلسفي الإيديولوجي ) لم تمنع الأوربيين من احتلالنا، وتبرير كل الفظائع بحق المسلمين في القارات الخمس. فميكافيلي وهوبز من رموز الحداثة الغربية، فأي نفاق تعلمنا إياه الحداثوية. لقد حولت الثورة الفرنسية " العقد الاجتماعي " لجان جاك روسو من دعوة لتنازل المواطنين عن بعض حقوقهم لصالح الحكومة إلى استعباد واسترقاق يبدو اليوم ماثلاً في البلدان التي تتشدق بالحداثوية مثل تونس على سبيل المثال. لقد اشترط روسو ذلك التنازل بموافقة الشعب، ولكن الشعب تم إلغاؤه على يد الحداثويين، ولا تجد اليوم أي حداثوي يتحدث عن الشعب فضلا عن الأمة، بل يخاطبون السلطات لفرض القوانين، وتكميم الأفواه، وقطع الأرزاق، ومصادرة الحريات، تحت لافتة الحداثوية.