الزحف البطيء
5 ربيع الأول 1431
د. محمد العبدة




الإسلام دين عام للبشرية كلها، وليس لقوم أو فئة خاصة (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) والمسلم يفرح عندما يرى انتشار الاسلام، ويفرح عندما يسلم الكافر في أي ملة كان خاصة إذا كان قد أسلم على يديه فإنه يكون قد أنقذه من النار وأخذ هو الأجر. هذا شيء طبيعي لا يختلف عليه أحد. ولكن لنرى بعد ذلك ألا يحتاج هذا الوافد الجديد إلى تعليم وتدريس، ألا يحتاج إلى أن يفقه الإسلام وخاصه أسسه وأصوله، ويترك ما كان عليه من وثنية وأفكار مشوشة عن الحياة والكون والإنسان، بل ماذا لو كان قد دخل في الاسلام لأغراض خاصة، للهدم من الداخل، ألا نحتاج إلى وقفة وتريث واختبار ولا نكون من المغفلين.

 

 

 

بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوة قريش (وأنذر عشيرتك الأقربين)، ثم ما حول مكة ثم العرب قاطبة، وأسلمت الجزيرة العربية قيادها للإسلام، وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم اختار المهاجرون والأنصار أبا بكر خليفته صلى الله عليه وسلم، وفي عهده رضي الله عنه اتسع العرب المسلمون شرقًا وغربًا يبلغون الناس هذا الدين، وأسلمت البلاد المجاورة طوعًا لا كرهًا (لا إكراه في الدين)، واستمرت الفتوحات في عهد عمر وعثمان رضي الله عنهما، ودخلت أمم شتى في هذا الدين، أمم وارثة لحضارات قديمة، وأمم تحمل أوزارًا من بقايا ماضيها من أفكار وعادات وتقاليد "كل الأشياء وقعت في نفس الوقت وبسرعة خاطفة؛ الفتوح، الهجرات، قيام الدولة، الحاجة إلى الاجتهاد، أهل البلاد المفتوحة يدخلون في الاسلام جماعات ضخمة..." [حسين مؤنس/ تاريخ الفكر العربي/167]

 

 

 

هذه الوفرة من الفتوحات تحتاج إلى توقف لينصهر القادمون الجدد في المجتمع الجديد؛ حتى يكتمل التجانس في صورته الكبيرة، كما كان في نواته الأولى (المهاجرون والأنصار والعرب في الجزيرة). وإن عدم التجانس سيكون له التأثير السلبي على العقيدة وعلى السلوك، خاصة وأن "دين الإسلام لما كان ناسخًا للأديان كلها، وكان ملكه قادحًا في الرياسات بأسرها، امتلأت القلوب غيظًا عليه، ثم كان مع ذلك في غاية الحسن، فغير بعيد أن يكثر عدوه وتزدحم التخاليط عليه"" [أبو الحسن العامري: الإعلام بمناقب الإسلام/ 193]

 

 

 

امتلأت القلوب غيظًا من بعض الفئات الحاقدة التي تشعر أن الإسلام قوض لها إمبراطوريات وهدم عروشًا ظالمة، وكانت رغبة عمر رضي الله عنه التروي والاعتدال في التوسع، ولم يكن يحب أن يسرع المسلمون في الفتح قبل أن يثبتوا أقدامهم في البلاد المفتوحة، وينظموا أمورهم، كان هذا واضحًا في ذهن عمر، يروي الطبري: "حسب أهل البصرة سوادهم والأهواز، وددت أن بيننا وبين فارس جبلاً من نار، لا يصلون إلينا ولا نصل إليهم"، هذه رغبة داخلية، إحساس داخلي يدل على عبقرية في فقه سنن المجتمعات، وعقابيل الفتوح دون التثبت والتريث وصهر القادمين الجدد في بوتقة الإسلام الصحيح، وقد أصيب هو شخصيًا من عقابيل ذلك؛ فقال لابن عباس عندما علم أن الذي طعنه علج من علوج العجم قال: "هذا من عمل أصحابك، كنت أريد ألا يدخلها (المدينة) علج من السبى فغلبتموني" [ابن سعد/ الطبقات 3/352] وقد يقال لماذا لم يمنع دخول هؤلاء وهو أمير المؤمنين، ذلك لأن رأيه هذا رأي اجتهادي في السياسة الشرعية، وليس عنده دليل على المنع، وهو خليفة راشد، لا يمنع ولا يعطي إلا ضمن الأدلة الشرعية.

 

 

 

إنها الحرية والشورى، لا يستبد برأيه يقول لهم غلبتموني على رأي ارتئيته. يقول رضي الله عنه مخاطبًا ولاة الأمصار يحذرهم من ظلم الناس وإذلالهم: "ولا تضربوهم فتذلوهم، ولا تغلقوا الأبواب دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم، وقاتلوا بهم الكفار طاقتهم، فإن رأيتم بهم كلالة فكفوا عن ذلك، فإن ذلك أبلغ من جهاد عدوكم" [شبلي النعماني: حكومة عمر/37]

ولما تولى عمر بن عبد العزيز أمر الخلافة، وجه إلى مسلمة بن عبد الملك وهو بأرض الروم محاصر للقسطنطينية يأمره بالقفول بمن معه من المسلمين ووجه له خيلاً عتاقًا، وطعامًا كثيرًا، وحث الناس على معونتهم، وذلك عندما رأى عمر ما لقى مسلمة وجنده من الجهد في حصار القسطنطينية، وخشي على الجيش الفناء أي أن حفظ رأس المال (الجيش الإسلامي) أهم من الفتوح.

 

 

 

وكذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله في بلاد ما وراء النهر بإقفال المسلمين بذراريهم إلى البلاد والتي أظلها سلطان العرب منذ سنين قائلاً: حسب المسلمين الذي فتح الله عليهم. وذلك لأن عمر رحمه الله كان حريصًا على إصلاح البلاد وأهلها أولاً، وأن صهر الأفراد والمجتمعات ضد مفهوم (الأمة) مع العناية بالتربية الدينية التي تكون المزاج العام للأمة هو الأولى.

 

ليس هذا إهمالاً للدعوة أو ابتعادًا عنها، بل إنه واجب أساسي أن ندعو الناس، كل الناس، إلى هذا الحق وهذا الخير، عدا عن الأجر العميم لمن يسلم الناس على يديه، ولكن هل نفرح بكل داخل، ولو كان دخوله لهوى أو مؤامرة وضغينة، أليست هذه العقلية أو هذه البساطة مما أوهن الصف الإسلامي في القديم (عبد الله بن سبأ نموذجًا) وأمثاله في العصر الحديث، بعدم الحذر من هذه الأصناف.

 

 

 

ألا يجب أن تتجه الجهود لتعليم المسلمين أولاً وتحصينهم وتثقيفهم، حتى يكونوا هم أنفسهم دعاة بأقوالهم وسلوكهم، ويصبحوا نماذج يقتدى بها؟.

ألا يجب أن نلوم أنفسنا على هذه الخلخلة التي يحدثها القادمون الجدد، الذين يحملون إرث حضارتهم ولم ينصهروا في مجتمع الرشد والحضارة؟ لماذا "لا ننظر إلى ما في حقائب المسلمين الجدد" كما يقول (دوغو بينو) [حاضر العالم الإسلامي 1/186]

 

نعم هناك حقائب ملغمة، لابد من تفتيشها، ولابد من اختبار وانتظار لتتكون الأمة التي تقوم على العقيدة السليمة.

إن التروي أفضل من العجلة المهلكة، ولذلك قال عمر رضي الله عنه "ولم يمنعني أن أؤمر سليطًاً [هو سليط بن عمرو بن مالك العامري من الصحابة] إلا سرعته في الحرب والحرب لا يصلح لها إلا الرجل المكيث" [تاريخ الطبري 4/266]