من ساعد الموساد لتصفية المبحوح؟
23 صفر 1431
ياسمينة صالح

أمام الجريمة الشنعاء التي ارتكبها جهاز الموساد الإسرائيلي باغتياله واحد من المجاهدين الشرفاء، وأمام تباهى الإعلام الصهيوني لأيام بما أسموه "الإنجاز الكبير" الذي "أنجزوه"، وعودة الكلام من جديد عن إسرائيل التي لا تقهر، واليد الصهيونية الطويلة القادرة على الوصول إلى أي شخص وفي أي بلد، أمام كل هذا لم يعد هنالك شيء اسمه حدود أو خطوط حمراء ولم تعد هنالك موانع أخلاقية، ولا حتى قوانين دولية لحماية الأشخاص والممتلكات من التصفية الجسدية على أيدي أجهزة إرهابية رسمية، أصبحت إسرائيل تمارس ذات الشعار الذي استعملته في الثمانينات بأن الطرق كلها تؤدي إلى القتل، إلى الاغتيال، إلى التصفية الكاملة، سواء بالقنابل الفسفورية، أو بالسيارات الملغمة، أو بالتصفية الجسدية داخل الأراضي المحتلة أو في أي مكان، لقد تجددت حرب الثمانينات في صورة أخرى، ليست مغايرة تماما عما ارتكبه الصهاينة ضد الجهاديين الفلسطينيين، والحال أنه لم يعد ممكنا ـ مهما كانت المبررات ـ الدفاع عن السلام الأعوج الذي يدافع عنه محمود عباس، وصائب عريقات والدحلان، ولا مصر التي تريد جر حماس من عنقها للاستسلام الأبيض دون أدنى مكاسب تذكر. لقد مارس الموساد الصهيوني الإرهاب الذي يحب ممارسته مدركا أن الغرب لن يدينه ولن يطالب بجلده، ولن يندد حتى عمليا بالجريمة التي وقعت في دولة عربية سيّدة على أرضها، ولا حتى الدول التي استعمل الموساد جنسيتها للدخول إلى دبي سوف تكترث وتندد، إنه الإرهاب الدولي الذي تمارسه إسرائيل بسعادة كبيرة وبتشفي أكبر في الدول العربية (المعتدلة!) الجبانة التي كانت تردح لأجل التطبيع الاقتصادي والثقافي مع الصهاينة تحت جلباب السلام وحب السلام عشق السلام. لقد ضرب الصهاينة بعرض الحائط حتى مشاعر العرب الذين يصادقون اليهود في الفنادق الفخمة، ضربت بعرض الحائط حتى الدول العربية التي سمحت قبل فترة بدخول إلى أرضها وزراء ومسئولين صهاينة بحجة المشاورات معهم ربما في الاحتباس الحراري الذي يهدد عروشهم! كل هذا مارسه الصهاينة بذات الغرور الذي جعل القناة العاشرة الإسرائيلية تنقل من دبي ومن الفندق الذي اغتيل فيه الشهيد المبحوح رسالة صحفها الصهيوني، كأنه ليقول: لقد اخترقناكم أمنيا، فها نحن نخترقكم إعلاميا أيضا على عينك يا تاجر!

 

من اغتال المبحوح؟
ما يبدو صادما لنا، أن التقارير التي أصبحت تنشرها مواقع غربية كثيرة تشير تحت السطور إلى أن الموساد الصهيوني لم ينجز هذه العملية لوحده، لقد حصل على دعم لوجستيكي شامل من أجهزة مخابراتية عربية، بالضبط من جهازين عربيين على الأقل، يعتقد أنهما نجحا بشكل كبير في اختراق مواقع إعلامية فلسطينية تابعة لحركة المقاومة الإسلامية وبالتالي حصلا عام 2008 على الصورة التي ظل الموساد يبحث عنها لسنوات، صورة الشهيد محمود المبحوح الذي كان شخصا هلاميا بالنسبة للصهاينة، يعرفون اسمه ولا يعرفون شكله على الرغم من أنهم اعتقلوه في بداية التسعينات. لقد ظل الشهيد بعيدا عن الأضواء، المرات القليلة التي ظهر فيها ظهر مغطى الوجه بوشاح فلسطيني كدليل أنه كان يريد إبعاد نفسه عن الأضواء، بيد أن البورتيه الذي رسم له بقلم الرصاص والذي نشرته صحف إسرائيلية عام 2006 دليل أنهم كانوا يجهلون شكله الراهن وإلا لكانوا نشروا صورته علانية كما فعلوا من مناضلين من فتح كانت تعرف هويتهم وتعرضوا إلى التصفية الجسدية في روما عام 1982 على سبيل المثال لا الحصر، أو كما فعل الموساد مع أبي جهاد ومع أبي أياد في تونس عندما اقتحم بيتهما وتمت تصفيتهما بشكل بارد. لقد عجز الصهاينة عن اغتيال محمود المبحوح لعشر سنوات على الأقل، إلى أن وقع بين أيدي أمن الدولة في دولة عربية ودخل السجن. لقد كشفت العديد من التقارير المنشورة على الانترنت أن دولتين عربيتين تعاملتا مع الشهيد محمود المبحوح في إطار مطاردته (لأنه متهم بمهندس فكرة إدخال السلاح عبر الأنفاق لقطاع غزة)، إذ حاولت تلك الأجهزة ترصد تحركاته سواء أثناء تواجده في سورية أو خارجها، وأن مخابرات هاتين الدولتين ساهمتا بشكل كبير في إيصال إلى الصهاينة معلومات دقيقة ودقيقة جدا عنه وعن تحركاته، وعن رحلته الأخيرة إلى دبي. بيد أن التساؤل الكبير هو أن المبحوح سافر إلى دبي في ظروف استثنائية شديدة التعقيد، فالصهاينة (وأجهزة المخابرات العربية) يمارسون دور الشرطي في المنطقة، ومع ذلك ثمة من استدرجه إلى دبي وثمة من كان يدرك جيدا شخصية الرجل الذي دخل بجواز سفر واسم مختلفين، إذ بعد 24 ساعة فقط تمت تصفيته! لقد ذهب موقع "كونفيدانس" على الانترنت إلى طرح سؤال كبير: كيف استطاع الموساد الوصول إلى شخص تنكّـر حتى في طريقة دخوله إلى دبي لتصطاده بتلك السهولة والبساطة، وهو المعروف بحذره الشديد، وبحاسته الأمنية العالية. لقد اقتيد الشهيد إلى الفخ، لا مستقبليه ولا الذين وافقوا على سفره إلى دبي كانوا يعلمون باللعبة القذرة التي أحيكت في الخفاء، إلى أن جاءت النهاية. فمن الذي سهّل عملية الموساد بهذه الطريقة المخزية؟

 

ردحات السلام ودمى الكراسي!
كما سبق وأشرنا إليه، فإن أجهزة الأمن الفلسطينية نفسها التابعة لحركة المقاومة الفلسطينية بكل أجنحتها لا تنكر أن ثمة اختراقات خطيرة وقعت، طريقة اغتيال الصهاينة لنشطاء ومجاهدين فلسطينيين داخل الأراضي المحتلة (الشهيد الرنتيسي على سبيل المثال لا الحصر الذي كان رحمه الله كان من أشد الحريصين على سرية تنقلاته لولا الاختراق الذي وقع)، كما أن مجلة "جروزاليم" الفرانكفونية سبق أن نشرت تقريرا أمنيا جاء فيه أن الموساد يستفيد من "مصادره" الخاصة داخل الأراضي المحتلة أو تلك التي تسربها إليه بعض أجهزة المخابرات العربية التي تتعامل معه بشكل مباشر مقابل معلومات مخابراتية إسرائيلية موازية عن نشطاء إسلاميين، بالخصوص نشطاء تابعين إلى تنظيم القاعدة يتواجدون في دول غربية مثل بريطانيا وكندا، ويؤكد ذلك التقرير أن المعلومات التي يتوصل إليه أركان الجيش عن طريق جهاز الموساد تنم عن اختراق خطير نجحت في تحقيقه أجهزة المخابرات العربية لفائدة إسرائيل، فإسرائيل التي تتباهى بأن لديها " الأذرع الطويلة"، لا تخفي أن "أصدقاءها يساعدونها" وطبعا أهم الأصدقاء في المنطقة هم العرب، و بعضهم الآخر بكل أسف من الفلسطينيين أنفسهم ضعاف النفس الذين يبيعون دماء إخوانهم مقابل المال. لقد حاول الإعلام الصهيوني تشويه صورة الشهيد محمود المبحوح بالقول أن امرأة هي التي أوقعت به (لإبعاد الأنظار عن التواطؤ الاستخباراتي العربي)، معتقدين أن الكذبة سوف تنطلي علينا، وإن انطلت الكذبة على الأقزام من العرب الذين سارعوا لنشرها في صحفهم، إلا أنها لم ولن تنطلي على الشعوب العربية المسلمة التي تعرف جيدا أن الصهاينة لو كانوا صادقين لاغتالوا محمود المبحوح منذ عشرين سنة وليس اليوم وقد وصل إلى الخمسينات التي تزيده قناعة أن الشهادة هي لقاء وجه الله، ولأن الموساد لم يأخذ شيئا منه ساعة استنطاقه في غرفة الفندق، حاولوا تشويه صورته التي تظل نظيفة في قلوبنا وأعيننا إلى أن يرث الله الأرض ومن فيها. في حوار أجرته صحيفة جزائرية مع "حسن عبد الرؤوف" شقيق الشهيد محمود المبحوح، قال فيه أن المخابرات الإسرائيلية تعرف جيدا من يكون محمود، ويعرفون أنهم لن يأخذوا منه شيئا ولو قطعوا جلده، واعترف شقيق الشهيد أن وجود آثار ضرب شديد على جسد الشهيد وضربات خلف رأسه وآثار لصعق بالكهرباء وكدمات في أماكن مختلفة من جسده يكشف درجة الغل التي عومل بها قبل اغتياله، وتؤكد بما لا يدعو للشك أن الصهاينة الذين ثارت ثائرتهم لأنهم لم يأخذوا منه شيئا اعتدوا عليه بالضرب قبل اغتياله. لقد أخفى الصهاينة أثناء تباهيهم باغتيال الشهيد محمود المبحوح أنهم عذبوه لاستنطاقه ولم يأخذوا منه شيئا وإلا لتباهوا بأنهم أخذوا شيئا سيوظفونه في الوقت المناسب، مثلما تجاهلوا أثناء تباهيهم بانتصارهم أنهم انتهكوا حرمة دولة مستقلة ذات سيادة، وأن هذا يعاقب عليه القانون الدولي! الشهيد المبحوح مات تلك الميتة التي كان ينتظرها لأنه رجل شريف في زمن أشباه الرجال، كان يعرف أنه لن يخلد في هذه الأرض التي يظن الزعماء فيها أنهم سيخلدون، وكان يعي أن الشهادة هي قمة الفوز الذي يسعى إليه كل مسلم صادق وأصيل، (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلاً، ليجزي الله الصادقين بصدقهم ) ( الأحزاب : 23-24) (صدق الله العظيم). بانتظار أن تمارس دبي حقها الشرعي والدستوري والسيادي في إدانة الصهاينة الذين اعتدوا على أمنها الداخلي بمحاكمتهم دوليا، فالاختراق الأمني الأخير يظل خطيرا في ظل هذا الصمت الدولي الذي يعجز عن مجرد رفع الصوت لإدانة الصهاينة الذين تفرعنوا في الأرض، وإن رحل الشهيد محمود المبحوح عن عالمنا شهيدا (نسأل الله تعالى أن يتقبله مع الشهداء والصالحين) فإن اغتياله يعطينا القناعة المطلقة أن الذين يشطحون لأجل التطبيع هم أكثر الدول اختراقا اليوم، ويزيدنا يقينا أن الجهاد وحده من يعيد الأمور إلى نصابها، فلن يركع الصهاينة بالشطح، لكنهم سيركعون ومن يواليهم بالسلاح والنار، وإن غد لناظره قريب!