الأمن القومي على طريقة الجدار الفولاذي الفاصل!
18 محرم 1431
ياسمينة صالح

قبل فترة، زار الرئيس السويسري ليبيا "لدواعي قومية"! فقد كان يستشعر خطورة ما أحدثته قضية نجل العقيد الليبي المتهم في نظر القانون السويسري بتجاوز القانون، بيد أن القانون الليبي اتهم سويسرا بتجاوز ضرورة أن يكون ابن الرئيس فوق القانون، ولهذا مارست الجماهيرية الليبية حملة إعلامية واقتصادية غير مسبوقة لمقاطعة سويسرا، ليس لأن هذه الأخيرة قررت حظر المآذن في المساجد القليلة المترامية على الأرض السويسرية، وليس لأن سويسرا عبرت عن "عنصريتها المفضوحة" إزاء الإسلام بالذات، بل لأن سويسرا " فقط" تجاوزت قانون " الأعراف الدبلوماسية" واعتقلت نجل العقيد القذافي يوم واحد على ذمة التحقيق في أحد المخافر الجنيفية، بتهمة ضرب خدمه ضربا مبرحا، ولأن التهمة "تافهة" في نظر القذافي فما كان أن يعتقل ابنه، لا لشيء سوى لأنه ابن القذافي الذي يجب أن يكون " كأي ابن رئيس" فوق القانون! تلك هي الصورة المشهدية الغريبة التي غطت الصحف الليبية في الأيام الماضية، حتى حين تمنى العقيد معمر القذافي ألا تدخل سويسرا إلى الجنة، لم يتمنى ذلك لأن سويسرا حظرت المآذن، ولا لأنها لا تستحق أن تدخل الجنة، بل لأنها اعتقلت ابنه! تلك الصورة نفسها تكررت في العشر سنوات الماضية في أكثر من دولة، أبناء الرؤساء والوزراء العرب فوق القانون، وأبناء الشعب تحت الجزم، فهل يمكن لأمة يحكمها اللصوص والمرتزقة والخونة وأشباه الرجال أن تكون خير أمة أخرجت للناس في القرن الواحد والعشرين؟

مصر أكبر وأعظم من نظامها الخائر!
من يتنكر للدور المصري في القرن الماضي؟ ومن يمكنه أن يتنكر ما قدمته مصر في الخمسينات والستينات من القرن الماضي للأمة العربية، لكن مصر تغيرت منذ أربعين سنة، منذ تجرأ أنور السادات على مقايضة الأمة العربية كلها وحصرها في كامب ديفيد لم يعط لا لمصر ولا للأمة العربية شيئا أكثر مما أفقدها كل شيء، فقد استسلمت مصر الرسمية للوضع السياسي القائم منذ الثمانينات، وبكل أسف ظلت مصرت الرسمية تمشي ضد إرادة الشعب المصري الشهم والأصيل والأبي وضد ثوابته وضد عروبته التي لا يمكن أن يشكك فيها سوى المرضى النفسانيين. الأمر كان أكبر من الشعب، كان بتواطؤ الرسميين في هذه الحالة غير المجدية، والغريبة، والتي تثير الكثير من الأسئلة، أهمها: هل يمكن الحديث عن دور مصر في قيادة الدول العربية ضمن ما هي عليه اليوم من ضعف ومن استسلام ومن هوان؟ هل يمكن أن تقود دولة مستسلمة لقرارات الصهاينة بحجة الأمن القومي؟ ثم ما معنى الأمن القومي الذي لا يحمي المصريين أنفسهم من انزلاقات الرسميين أنفسهم، ألم يساهم الانزلاق السياسي المصري في حالة من التضييق على المصريين البسطاء في أكثر من بلد، وكأن المصري الذي يركض وراء لقمة عيشه في بلد ما يعكس بالضرورة النظام القائم، مع أنه لا يعكس النظام القائم، بل ونجد أغلبهم ناقم على النظام القائم، ويريد تغييره لتتغير الأمور نحو الأحسن، فأن يقول أحد الصهاينة في الكنيست أنه يشكر الرب أن جعل في مصر رئيسا يخاف على أمن إسرائيل لهي الكلمة التي تؤلم كل المصريين الشرفاء قبل أن تؤلم العرب، حتى ونحن نعي أن كل الرؤساء العرب من نفس الطينة، لا يصدون ولا يردون، مجرد كارتونيات متحركة بأوامر السيد الأبيض في أمريكا أو "إسرائيل" أو أوروبا! لكن أن يتمادى النظام المصري في الضغط على الفلسطينيين إلى درجة الجدار الفولاذي باسم الأمن القومي لهي الكارثة، وهي أيضا وصمة العار الكبيرة التي سوف تلاحقه تاريخيا وإنسانيا، فمن يعزل إخوانه عن الحياة بحجة الأمن القومي فهو لا يختلف في شيء عن المحتل نفسه الذي لم يتردد في سحق شعب أعزل تحت الصواريخ الفسفورية تحت ذات المطية: الأمن القومي "الإسرائيلي"، فهل الأمن القومي المصري صار "إسرائيليا"؟

لا للاستسلام تحت حجة الأمن القومي!
ما لم يستوعبه وزير خارجية مصر عندما هدد "من تسول له نفسه بتهديد الأمن القومي المصري"، وعندما اعتبر "التدخل في قرارات مصر بناء الجدار هو تدخل في الشؤون الداخلية المصرية وفي الأمن القومي المصري!"، أقول ما لم يستوعبه وزير خارجية مصر أن خبر الجدار الفولاذي لم تكشفه الصحف الفلسطينية ولا صحف جزر القمر ولا صحف هنالولو، بل كشفت عنه صحيفة " هاريتس" الإسرائيلية ليومين متتالين وبالتفاصيل الأدق، قبل أن ينتشر الخبر من "إسرائيل" نفسها ليغطي الصحف العالمية، فكيف يمكن أن يتكلم وزير خارجية مصر بالقول أن العرب يتدخلون في "الشؤون الداخلية المصرية" وفي " الأمن القومي المصري" طالما خبر الجدار الفولاذي جاء من "إسرائيل"، ليس هذا فقط، بل أغلب أخبار التضييق المصري على الفلسطينيين في معبر رفح تنقله ذات الصحف "الإسرائيلية" قبل أن يصبح خبرا على كل الصحف، أليس هذا يعني أن "إسرائيل" هي التي تهدد الأمن القومي المصري؟ فمن غير المنطقي ولا دبلوماسي ولا إنساني اتهام الفلسطينيين بأنهم أخطر على المصريين من "إسرائيل" مثلا، بالخصوص وأن المعبر الوحيد الذي يمكن أن يغيث الفلسطينيين هو الذي يليهم إلى أهم الدول العربية التي كانت أعظم دولة في دفاعها عن الحقوق العربية وفي حق تقرير المصير للشعوب المستضعفة، مصر التي كانت في القرن الماضي حاملة لواء العروبة والتضحيات في سبيل أمنها القومي عبر استقطاب الأمن العربي كله، فأن تكون حضنا فاعلا للدول العربية عليك أن تكون فاعلا في قراراتك إزاء الدول العربية، وألا تكون ضد الدول العربية بسبب وبدون سبب بحجة أن دول تقع في آخر المحيط الهندي ستهدد أمن مصر في الوقت الذي تبقى إسرائيل العدو الأول والأخطر لمصر شاء أبوالغيط أم أبى، ألم يهدد وزير "إسرائيلي" متطرف بقصف السد العالي في السنوات الماضية؟ ما الذي يجعل وزيرا صهيونيا يهدد بقصف السد العالي على الرغم من أن النظام المصري لم يقصر أبدا مع "إسرائيل" في الدفاع عن أمنها؟ السبب أن الشعب المصري المسلم والأصيل والأبي هو الذي سيظل الشوكة في حلق الصهاينة، ولأن "إسرائيل" تعرف أن الأنظمة العفنة سوف تزول آجلا أم عاجلا، وأنه سيبقى الشعب الرافض أبدا ودائما لإسرائيل الصهيونية والعنصرية والمتطرفة والدموية التي لأجل "أمنها المزعوم" تغير على مدينة كاملة لأيام متتالية وتقتل الأطفال والنساء أمام مرأى العالم الذي سوف يحمي القتلة من المتابعات القضائية الدولية لأنهم "ديمقراطيين" ولأن القتلى " متطرفين"!!!

يا أمة كانت خير أمة أخرجت للناس!
لقد استوقفتني الصحف والأسماء الإعلامية المأجورة والمعروفة في مصر وهي تنتقد بشده البيان الصادر عن حركة المقاومة الإسلامية حماس والذي استهجن فيه فتوى الأزهر التي "أحلت" بناء الجدار الفولاذي، ومن يتبصر في تلك ال"شتائم" المبطنة ضد حركة المقاومة الإسلامية لا يمكنه ألا يرى التفاصيل الصهيونية فيها، ليس لأن حركة حماس مقدسة لا يجوز انتقادها، بل لأن انتقادها في هذه الحالة لا مبرر له، ولأن ما قالته حركة حماس كتعليق على فتوى الأزهر يدخل في إطار الرد البسيط على فتوى جاءت من أكبر مجمع للبحوث الإسلامية في الأزهر، ولم يصدر عن "صندوق التضامن" أو من "هيئة الدفاع عن الأمن القومي"! ولأن دور الأزهر الذي يفترض أن يؤديه لا يمكن أن يكون لأجل أشخاص سوف يموتون آجلا أم عاجلا وسوف يقابلون ربهم يوم لا ينفع لا سلطة ولا نفوذ ولا مال، بل لأجل قضايا ستظل قائمة إلى أن يرث الأرض ومن فيها، وإن كانت القضية الفلسطينية جزء لا يتجزأ من إشكالية الاحتلال (احتلال الأراضي العربية منذ 1967) فيجب أن تكون ردة الفعل الإسلامية نحو تلك القضايا درة فعل إيجابية وصارمة لوجه الله وليس محاباة لأشخاص أو للمناصب، وليس مجاملة لنظام لم يجد عارا إلا وارتكبه ضد شعبه وضد أمته وضد ثوابت أمته، فكيف يمكن أن نصنف بعدئذ الإعلاميين الذين يقفون اليوم إلى جانب فتوى الأزهر الأخيرة وهم الذين ظلوا طوال السنوات الماضية يتمون "زوال كل ما هو إسلامي" عن مصر كي يرقصوا على حل شعرهم! ألم يكن الأزهر شوكة في حلوق أولئك العلمانيين الساقطين المنحلين أيام كان للحق اسم واحد، وهو الحق؟ فكيف يمكن تسمية الانزلاق الجديد للأزهر الشريف الذي سبق أن انزلق في متاهات كثيرة سوف يحاسبه الله عليها ذات يوم، فهل سيقول شيخ الأزهر اليوم أنه لم يسمع بالجدار الفولاذي؟ ذلك الجدار الذي سيبنى من دولة عربية تبقت المتنفس الوحيد بعد الله لمليون ونصف مليون غزاوي أغلبهم من النساء ومن الأطفال ومن الشيوخ، فقد كشفت دراسة بريطانية أن أغلب سكان غزة اليوم من الشيوخ، وأن الحروب الماضية تكرّست لاغتيال الفئة الشابة، وتحييد الأغلبية عبر إصابته بإعاقات دائمة ذهنية أو جسدية، كما كشفت منظمة الصحة أن ثلث سكان غزة يعانون من مشاكل نفسية جراء الحرب التي عاشوها في الإبادة الأخيرة ضدهم، فهل يمكن أن يشكل هؤلاء خطرا على الأمن القومي المصري إذًا ليبني النظام المصري جدارا فولاذيا سميكا للفصل بينهم؟ وإن كان "غلمان" الإعلام الرسمي في مصر يباركون قرار الجدار ويحيون الوقفة "الرائعة" للأزهر إزاء ذلك الجدار، فهذا يعني أن الحاجة إلى التغيير باتت مطلبا كبيرا في البلاد العربية (كل البلاد العربية من المحيط إلى الخليج) لأنه من المستحيل أن يقود الحمير أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد اليوم، وإلا فالموت أرحم لنا جميعا!