مآذن وحراب
26 ذو الحجه 1430
أمير سعيد







"المآذن حرابنا، والقباب خوذنا، والمساجد حصوننا، والمصلون جنودنا"، أبيات الشاعر التركي محمد عاكف، هذه، كانت كفيلة بأن تضع رئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان خلف الأسوار لمدة أربعة أشهر بدءاً من  أكتوبر 1998، وهي أيضاً ما ساهمت في تعزيز شعبيته في تركيا ليصبح فيما بعد الزعيم الإسلامي الأكثر جرأة في العالم بعد أن شغل منصب رئيس وزراء تركيا لمدة ست سنوات ونيف.

 

"المآذن حرابنا"، هكذا قال عاكف، وبها سجن إردوغان، وانزعج لها العسكر في تركيا، وفي الصورة ذاتها رآها بعض المتنفذين في أوروبا لاسيما في سويسرا، أكثر من وسيلة لرفع صوت الأذان ليصل إلى المؤمنين، حراب تشق عنان السماء تجهر بالفتح الإسلامي الجديد الهادئ، الصادح بالحكمة والموعظة الحسنة.

 

إنها معركة جديدة بلون مختلف، تنساب الجموع الفاتحة حثيثاً وبهدوء يراه الساسة وصناع القرار والرهبان المنزعجون، ويغفل عنه من يرى الحياة اليومية الأوروبية في رتابتها وببساطتها دون إمعان وتدقيق.

 

ولا عجب أن تحدث الأزمة تلو الأزمة، فهذه رسوم، وهذا نقاب، وذاك حجاب، وتلك مئذنة، وتتنوع المظاهر، وتتحد الأغراض حول هذا القادم بلا استئذان وعقب كل محاولات التدجين والإقصاء والتذويب؛ فإذا الحق أبلج والطائفة منصورة والقلة ظاهرة.

 

هي تعبيرات عن هاجس واحد في حقيقة الأمر يسيطر على مشعلي تلك الحرائق؛ فالمسألة تتجاوز كل مظاهر العداء والخصومة إلى كراهية مشهد هذا الدين ينمو بشكل اضطرادي غير محسوب ولا خاضع لمفاهيم التعايش والاندماج وفق الرؤية الغربية، وقبل عامين دلل لي رئيس اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا شكيب بن مخلوف عن تنامي الشعور الديني لدى المسلمين وزيادة أعداد الداخلين في الإسلام بقوله: "على سبيل المثال، سمعنا أحد القساوسة من أهل البلد يقول: نحن نذهب إلى إفريقيا لتنصير الناس، وفي المقابل نترك أفرادنا وشعوبنا تدخل في الإسلام، هو يشعر بذلك. انظر كم من شخص يدخل في الإسلام، وكم شخص يغادره؟! النسبة كبيرة والخارجون من الإسلام يكادون لا يذكرون.


صحيح أن بعض شبابنا ينحرف سلوكياته وأخلاقه، لكن سبحان الله سرعان ما يعودون للارتباط بالدين، فالعقيدة موجودة، والأصول موجودة، وهذا مشاهد بحمد الله في كثير من المساجد، وأنا بحكم وجودي في أوروبا دائما عندما أسافر، وأعود أجد شباباً يؤوبون إلى الدين والمسجد، فمسجدنا على سبيل المثال يتسع لـ1200 مصلٍ، يمتلئ في صلاة التراويح بالشباب كل ليلة.. وهم (القساوسة والنصارى) عندما يأتون في زيارات لمساجدنا يقولون "أنتم عندكم مستقبل"، أما نحن فلم نكن نفكر في هذه الملاحظة سابقًا، يقولون: " نرى شبابكم، ننظر إلى المسجد، نحصي أهل الشيب فنجدهم أقلية" في حين أنك حين تزور كنائسهم تجد معظمهم ممن شارفوا على الموت من أهل الشيب، ولذلك فدينهم طريقه إلى زوال إذا ما بقوا على ما هم عليه، لأنهم ليس عندهم ثوابت، نحن قوتنا في ثوابتنا، فلا مجال للكلام ولا للمناورة".

 

الطريف أن هؤلاء القساوسة الذين تحدث عنهم الأستاذ مخلوف وغيرهم ممن يجوبون بلاد إفريقيا سعياً وراء التنصير يصطدمون بتلك الحقيقة التي ينقلها باحثو التقرير الاستراتيجي الإفريقي [2006/2007 الجزء الرابع] عن دراسات غربية تؤكد بدورها "أنه من بين كل عشرة أفراد يعتنقون ديناً سماوياً عالمياً، يعتنق تسعة منهم الإسلام ويعتنق واحد فقط المسيحية, وهذا أوضح في أفريقيا"، وهذا ما يؤكد أن المسألة تعبر في أبجدياتها عن أزمة يستشعرها المعنيون بملاحظة التمدد الإسلامي اللافت في العالم عموماً وأوروبا خصوصاً، تلك القارة محل الاهتمام الأوروبي الأول بطبيعة الحال، فأوروبا التي يقدر عدد سكانها بنحو 750 مليون نسمة، تعطي إحصاءاتها نسباً للمسلمين تكاد تلامس 10% من عدد السكان؛ فالأرقام التي أوردتها الدراسات المختلفة تتراوح ما بين  38 مليوناً يمثلون نحو 5% من عدد سكان أوروبا وفقاً لتقديرات مركز بيو للأبحاث الذي أصدر دراسته حول خريطة المسلمين في العالم في أكتوبر 2009 (وهي بالمناسبة تقديرات تفتقر إلى الدقة ومسيسة إلى حد كبير، وفي مجملها ترمي إلى تقليل تلك النسب بوجه عام برغم الاستثناءات المحدودة في هذا السياق)، وتقديرات أخرى غربية تتحدث عن 60 مليوناً صدرت في هذا العام أيضاً، وثالثة تتحدث عن 56 مليوناً، وجميعها بطبيعة الحال لا تتوافر على معلومات تمكنها من طرح معلومات حقيقية 100%، ولكن على كلٍ؛ فتلك الأرقام ليست فقط مقلقة في حدها المعلن الآن، وإنما يتنامى الانزعاج والحذر بالنظر إلى معدلات الزيادة الديموجرافية في أعداد المسلمين في أوروبا، كون هذه النسب لم تكن على هذا النحو منذ عدة عقود فقط، لاسيما إذا أضيفت إلى ذلك معلومات ملموسة عن أن معدلات النمو السكاني في أوروبا وفقاً لمعطيات الاتحاد الأوروبي ذاته لا تتجاوز حد 1,38، وهو رقم ضئيل جداً ليس فقط لمواجهة الرقم الإسلامي غير المعلوم حقيقة لكن يستشف مثلاً من معدلات الزيادة في فرنسا مثلاً والتي تفوق رقم 8، والأمر لا يختلف كثيراً في دول أوروبية رئيسية أخرى كبريطانيا وألمانيا، لاسيما أن معدلات المواليد عموماً لدى المسلمين تفوق الأوروبيين غير المسلمين خصوصاً وأن مؤسسة الأسرة تتراجع هناك مقارنة بالعلاقات خارج إطار الزواج الزاهدة عموماً في إنجاب الأطفال.

 

أوروبا إذن أمام استحقاق بالغ الخطورة، أرقام تفيد بأن المسلمين سيمثلون غالبية أو أقلية كبيرة في بلدان أوروبية لم يكن الأمر فيها كذلك خلال نصف قرن من الآن، وأن النسبة العامة ستجاوز 20% من سكان أوروبا كلها حتى العام 2050، وحقائق تؤكد أن تلك الزيادات ليست في دول هامشية، بل في الدول التأثيرية الأولى في أوروبا كفرنسا وألمانيا وبريطانيا، ومعطيات تشير إلى أن معتنقي الدين الإسلامي في أوروبا هم من الشباب الواعد في غالبيتهم وليسوا من كبار السن (وهذا ما يفسر قول الكهان أعلاه :"المستقبل لكم"، ويفسر كذلك سبب انتحار القس الألماني قبل 3 سنوات لاصطدامه بحقيقة أن الإسلام سيغلب في أوروبا دون إراقة دماء).

 

الأكثر إزعاجاً في المسألة، أن مناهضة هذا النمو رهينة بجملة من الإجراءات التعسفية التي تمثل ردة عن كل قوانين الحريات في الداخل الأوروبي، والتي ستجعل أوروبا تدريجياً تعود إلى مرحلة محاكم التفتيش ولكن بأسلوب عصري، لن يقبله الأحرار في أوروبا بطبيعة الحال، وهو ما بدأ ينعكس من الآن مع التلويح ببعض الإجراءات في ازدياد شغف الأوروبيين بالتعرف إلى الإسلام، والمناداة بعدم الارتداد عن "قيم الحرية الأوروبية الغربية"، وبالتالي؛ فإن التوسع في الإجراءات التعسفية سيؤدي إلى نسف تلك القيم، والتشكيك لاحقاً في قدرتها على استيعاب "الأديان" والأفكار والعقائد المختلفة، وهو ما ينسف فكرة الحريات والديمقراطية والعلمانية ذاتها، ويعود بأوروبا القهقرى إلى عصور "الحروب الصليبية" الصريحة، كقارة مسيحية لا تعرف "التسامح الديني".

 

وصحيح أن الدول الرئيسية في أوروبا الغربية مارست "استعماراً" واضطهاداً ولم تزل تمارس ذلك خارج حدود أوروبا، لكنها لم تزل تتحفظ عن كشف وجهها البغيض في الداخل الأوروبي، وهي عندما فعلت إبان مجازر البلقان ارتفعت أصوات عديدة في الداخل الأوروبي تدين السلوك المنافق لدول بريطانيا وفرنسا وألمانيا إزاء حقوق الإنسان والحقوق الأساسية للمواطن الأوروبي برغم أن دول البلقان لم تكن انضمت بعد للاتحاد الأوروبي حينها؛ فكيف سيكون الحال لدول تنضوي تحت علمه؟!.

 

وما يضاف إلى ذلك من أن كثير من المهاجرين المسلمين في أوروبا هم أضحوا مستوطنين فيها لأكثر من جيل وقد حصلوا على الجنسيات الأوروبية، ولا يمكن انتزاعهم من أوطانهم الحالية، وأن كثيراً من هؤلاء يمثل كفاءات علمية، أو يعول العديد من الأسر الأوروبية العاطلة وفقاً لنظام الضمان الاجتماعي المتضمن لبدلات البطالة التي يدفعها بطبيعة الحال العاملون الحقيقيون، والمسلمون المهاجرون في غالبهم يعملون ولا يفيدون من هذه البدلات، وما يضاف أيضاً من أن أصواتً أوروبية خالصة وغير مسلمة لا تقبل الظلم بدأت تتعاطف مع المسلمين عند تنكر السلطات لقيم أوروبا في مسائل النقاب والحجاب والمآذن وغيرها، وينعكس "سلباً" ـ وفق الرؤية الأوروبية ـ عليهم بحب التعرف على الإسلام والتضامن مع معتنقيه المظلومين.. كل ذلك يجعل الإجراءات التعسفية الأوروبية المتوقعة مستقبلاً كارثية وغير مأمونة العواقب بالنسبة للأوروبيين.

 

والحاصل أن أوروبا قد وقعت الآن تحت مطرقة الإسلام وسندان القيم الأوروبية الجديدة التي يعد التنكر لها ردة كبيرة، ويمكننا أن ندرك الورطة التي وقعت فيها أوروبا حالياً؛ فهي بعد أن مارست اضطهاداً وتعذيباً وتركيساً دينياً بإبعاد المسلمين من أوروبا خلال القرون الماضية ـ باستثناء البلقان التي ظلت تحت حكم الخلافة العثمانية إلى أقل من قرنين مضيا فلم ينجز التركيس الديني فيها إنهاءً كاملاً للوجود الإسلامي وإن نجح في تقليله ـ جعل ذلك كله أوروبا خالية من الوجود الإسلامي الأصلي، حيث كل سكانها المسلمون الآن هم من المهاجرين في عصر الانفتاح الأوروبي وإطلاق الحريات الدينية لحد كبير، وهي حالة بالطبع تخالف الوضع في الدول العربية والإسلامية التي ظلت فيها الجاليات "المسيحية" تنعم بالمواطنة والعيش في كنف المسلمين حتى في أكثر الديكتاتوريات العربية التي تعيرها أوروبا بالتضييق على الأقليات الدينية.

 

سمحت أوروبا للمسلمين بأعداد قليلة بمشاركتها في بناء نهضتها فتركت الباب مشرعاً أمام هجرات منظمة للأكاديميين والفنيين إليها في فترة سابقة وفي حسبانها أن ذلك لن يؤثر على ديموجرافية أوروبا وربما أسهم في تبييض صورتها "الاستعمارية" الكالحة، لكنها أفاقت الآن على مشكلة عصية على الحل؛ فالمهاجرون لم يعودوا رقماً هيناً، وتأثيرهم غدا متنامياً؛ فاستحالت المآذن في نظرهم حراباً لامعة، واستحضر المنظرون مشاهد الفتوحات الإسلامية فارتعدت فرائصهم وطفقوا يصرخون، وكانت "الرموز الإسلامية" الظاهرة تلك الطليعة التي تلقت أولي الضربات، إذ نرى الصورة كما يراها الشاعر عاكف، حراباً فكرية في معركة الحجة والبرهان والبيان السلس الرقراق بأوروبا يقذف فيها المولى بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، ويراها الأوروبيون رمزاً للإرهاب ولو لم تنطق بأكثر من عبارة "حي على الصلاة.. حي على الفلاح"!!

 

ـــــــــــ

[email protected]