من معارك المفكر الراحل علي عزت بيجوفيتش وحقيقة الكون
6 ذو القعدة 1430
عبد الباقي خليفة

إذا كان هناك من لا يمكن اختصار أفكاره، مهما أوتي المتعاطي معها من صنعة وخبرة، فإن علي عزت بيجوفيتش واحد من هؤلاء المفكرين، الذين أظهروا تفوقا جليا في استيعاب وتأطير فلسفات العصر الحديث وأفكاره ومدارسه المختلفة، وواحد من أهم من ردوا على الأفكار من جنسها، وبين قصورها في فهم أبعاد الوجود عامة والوجود الإنساني خاصة. لقد ساهم علي عزت بيجوفيتش، رحمه الله، من حيث يدري في إبراز العين الأخرى للوجود والأذن الأخرى للحياة، والحقيقة الكامنة في الموضوعي، بظهورها الخفي، وعمقها الظاهر. وذلك إذا استحضرنا رؤية محمد أسد رحمه الله الذي رأى في بعض مدارس العلم الحديث المؤدلجة "الدجال الأعور". وكتبه رحمه الله، مما يجدر بالمسلمين دراستها وتدريسها، وليس مجرد قراءتها قراءة سريعة، وترفيه.

 

يؤكد علي عزت بيجوفيتش بأن "الكائن الإنساني ليس مجرد مجموع وظائفه البيولوجية المختلفة " كما يذهب إلى ذلك الوجوديون، بل أن اللوحة الفنية ليست كذلك، فضلا عن الإنسان. حيث لا يمكن تحليلها إلى كمية الألوان المستخدمة فيها. ولا القصيدة إلى الألفاظ التي تكونها. صحيح أن المسجد مبني من عدد محدد من الأحجار ذات شكل معين وبنظام معين، ومن كمية محددة من الأحجار ذات شكل معين وبنظام معين ومن كمية محددة من المواد إلى غير ذلك، ومع ذلك فليست هذه كل الحقيقية ". وكأني بعلي عزت (وهو بيننا) يشير بطريقة غير مباشرة لدعوة الصهاينة الأخيرة إلى نقل المسجد الأقصى من القدس في فلسطين المحتلة، إلى مكة المكرمة، فهم يحاولون الإيهام بذلك، ولكن المسجد الأقصى أكبر وأشمل من مجرد مواد وشكل هندسي ومعلم مادي. فالمسجد كما يقول علي عزت يختلف عن معسكر حربي " فبعد كل شيء هناك فرق بين المسجد وبين معسكر حربي".

 

لقد ذكر علي عزت رحمه الله ذلك في معرض رده على أحد رموز المادية التاريخية والمادية الجدلية، المنهارة، في القرن العشرين، فريدريك انجلز، الذي اعتبر " اليد ليست عضو العمل فقط، بل أيضا نتاج العمل.. فمن خلال العمل اكتسبت اليد البشرية هذه الدرجة الرفيعة من الإتقان الذي استطاعت من خلاله أن تنتج لوحات "رفاييلو" وتماثيل "تورفالدسين" وموسيقى "باغانيني".

 

ويوضح علي عزت بيجوفيتش، بعيني الفكر والوجدان أن ما يتحدث عنه " انجلز " هو استمرارية النمو البيولوجي وليس النمو الروحي. وفن التصوير عمل روحي وليس عملا تقنيا (فحسب). فقد أبدع "رافائيل " لوحاته ليس بيده (فحسب) بل بروحه. وكتب بيتهوفن أعظم أعماله بعد أن أصيب بالصمم. إن النمو البيولوجي وحده، حتى لو امتد إلى أبد الآبدين، ما كان بوسعه أن يمنحنا لوحات " رافائييل " ولا حتى صور الكهوف البدائية التي ظهرت في عصر ما قبل التاريخ " ويؤكد بعقل مستنير " هنا نحن أمام جانبين منفصلين من وجود الإنسان ". ويضيف " من الممكن أن تكتب تحليلا لغويا كاملا لقصيدة من قصائد " جوته " (أو غوته) ومع ذلك لا نقترب خطوة واحدة من جوهر القصيدة، والقاموس اللغوي يحتوي على جميع كلمات اللغة وهو بالغ الدقة، وقد لا تحتوي قصيدة ما مكتوبة باللغة نفسها إلا على عدد قليل من كلمات القاموس، ولكن القاموس يفتقر إلى حبكة القصيدة، كما تحمل القصيدة معنى وجوهرا لا يمكنه الوصول إليهما ".

 

ويمضي قائلا " إن علم الحفريات وعلم هيئة الإنسان وعلم النفس (عندما تجرد من الغائية) تصف من الإنسان فقط الجانب الخارجي الآلي الذي لا معنى له " ومع فارق جوهري يصف علي عزت بيجوفيتش الإنسان بأنه "الإنسان مثله كمثل اللوحة الفنية والمسجد والقصيدة، أكثر من مجرد كمية ونوعية المادة التي تكونه.. الإنسان أكثر من جميع ما تقوله عنه (العلوم) مجتمعة".

 

وينقض علي عزت مزاعم الماديين المؤدلجين للعلم قائلا "طبقا لنظرية التطور، كان الأب الأعلى لأكثر أنواع البشر بدائية هو نوع من أكثر أنواع الحيوان تقدما، ولكننا إذا ذهبنا نقارن بين الإنسان البدائي وبين أكثر أنواع الحيوان تقدما لوجدنا أن هناك فرقا جوهريا ملازما " ويلفت الانتباه إلى الطبيعة ذاتها " أنظر إلى قطيع من الحيوانات وهي تبحث عن الطعام وتتصارع من أجل البقاء، ثم انظر إلى إنسان بدائي خائف مشوش بمعتقداته ومحرماته الغريبة، أو غارق في أسراره ورموزه الغامضة. هذا الفرق بين المجموعتين لا يمكن رده إلى مجرد اختلاف في مراحل التطور فحسب ". فعلي عزت رحمه الله، يشير إلى أن العبادة خاصية رافقت الإنسان منذ وجوده على الأرض، وخلت المدن من أسوار ومن مرافق كثيرة لكنها لم تخل من أماكن عبادة مهما كانت. وأن العلم والتقدم العلمي لم يقض على ذلك، وإن حاولت الشيوعية وفلول الحداثة العوراء، (الثورة الفرنسية، والحداثة المغشوشة في البلاد العربية) فرض ذلك بالقوة من خلال القمع، بل أن القرن الواحد والعشرين توقع له أن يكون قرن عودة التدين، ليس على المستوى الفردي فحسب بل على الصعيد الأممي وما يطلق عليه راهنا بالحقول الحضارية.

 

فالإنسان كما يقول علي عزت "قد انصب في وعيه ليس فقط أنه مختلف عن الحيوان، ولكن أيضا أن معنى حياته لا يتحقق إلا بإنكار الحيوان الذي بداخله". ويتساءل علي عزت بيجوفيتش " إذا كان الإنسان ابن الطبيعة كما يقولون، فكيف تسنى له أن يبدأ في معارضة الطبيعة؟ وإذا تخيلنا تطور ذكاء الإنسان إلى أعلى درجة، فإننا سنجد أن حاجاته ستزداد من ناحيتي الكم والنوع ولن يتلاشى شيء منها، فقط ستكون طريقة إشباع هذه الحاجات أكثر ذكاء وأفضل تنظيما.. أما فكرة أن يضحي الإنسان بنفسه في سبيل الآخرين، أو أن يرفض بعض رغباته، أو أن يقلل من حدة ملذاته الجسدية، فكل هذا لا يأتي من ناحية عقله ".

 

ومن هذا المنطلق قد يساعدنا شرح علي عزت بيجوفيتش في فهم الدعوة للعقلانية التي ظهرت في زمننا، وهي بمعنى من المعاني " الحيوان بداخل كل إنسان بتعبير علي عزت نفسه. وليس إعمال العقل كما يبدو من المعنى الظاهر للعقلانية أي التجرد من العقل الكامل الذي يدرك أبعاد الإنسان، الأكثر من مجرد نزعات وغرائز. فالعقلانية المرفوضة تعني بطريقة ما " التجرد من كل أشكال التضحية وتقييد بعض الرغبات والتقليل من حدة الملذات لأسباب إنسانية. أي دينية.

 

ويضرب علي عزت رحمه الله، المزيد من الأمثلة عن الفوارق الجوهرية للكائنات، وتحديدا ما بين الإنسان والحيوان من خلال الخصائص الوجودية " إن مبدأ وجود الحيوان للمنفعة والكفاءة، وليس هو الحال بالنسبة للإنسان، على الأقل فيما يتعلق بخاصيته المميزة. وغرائز الحيوان أفضل مثل على الكفاءة والمنفعة. فالحيوان لديه شعور دقيق بالوقت أفضل من شعور الإنسان.. وهناك أمثلة كثيرة على ذلك منها طيور الزرزور التي تتوقف عن تناول الطعام قبل الغروب بساعة. وينظم النحل عمله اليومي بدرجة من الدقة مدهشة، فمعظم الزهور تبث رحيقها بضع ساعات يوميا في مواعيد معينة دقيقة يذهب فيها النحل لامتصاص الرحيق، فهو يتخير الوقت المناسب كما يتخير أفضل المواقع، ولتحديد الاتجاه يستخدم علامات مختلفة على الأرض، كما يقدر موقع الشمس في السماء. وعندما تتبلد السماء بالغيوم يكيف النحل نفسه باستقطاب ضوء الشمس من خلال السحب.. وهكذا ".

 

ويضيف "هذه القدرات هي قدرات من هذا العالم. إنها تدعم الكائنات الحية وتجعلها قادرة على البقاء". لقد تحدث القرآن الكريم عن النحل وعن السير في الأرض وعن الطبيعة، بما يغلق المجال تماما أمام الصدفة، أو التفسير المادي للتاريخ وللانسان وللطبيعة.

 

ولكن علي عزت بيجوفيتش يتوجه بكلامه في مجموعة أعماله الصادرة حديثا إلى العقل الغربي ويرد عليه من جنس منطلقاته. ليس على طريقة أسبقية العقل على المادة كما ذهب إلى ذلك " هيغل " ولا " المادة على العقل في الأطروحات الماركسية، وإنما الطريق الوسط، الذي يجمع بين الروح والمادة والعقل والروح، ومملكة الأرض ومملكة السماء بالتأكيد على قوله تعالى " وهو الذي في المساء إله وفي الأرض إله " فمملكة الله هي الدنيا والآخرة.وعلو الشريعة مقاصد القرآن بصفته كتاب أمة بقطع النظر عن الجنسية والطائفة والزمن والجغرافيا. كتاب ينادي الفرد {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: من الآية77]، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم "الدنيا مزرعة الآخرة". فمملكة الدنيا لها صلة وثيقة بمملكة الآخرة، بل إن الحياة غراس الدنيا وحصاد الآخرة.