الأخطر في جولدستون.. والعد العكسي لإزالة الأقصى
23 شوال 1430
أمير سعيد







لا يدرك كثيرون أننا على حافة كارثة، ولا تتوقع شعوبنا يوماً أن تستيقظ فلا تجد الأقصى قائماً تحت أي ظرف من الظروف، وتحت أي حجة من الحجج، ولا يصدق أحد أنه من الممكن أن يحصل المحذور وتستغل "إسرائيل" تفسخ مقاومتنا لهذه الجريمة المنتظرة وتمتص موجة الغضب المحسوبة..

موجة كتلك التي أعقبت الرسوم المسيئة، أو العدوان على غزة، أو ذبح البوسنيين...، ثم تفتر، ولا مجال لها إلا أن تفتر؛ فماذا عسانا أن نفعل بعد أن سقطت الجدران، وتهاوت المآذن والقباب، وتكسر المنبر، وتحولت الأحجار إلى أكوام؟!

إن الطريق ممهد لحدوث هذا، ولن يكون مفيداً تكرار المتكرر بشأن الحفريات التي جعلت المسجد الأقصى معلقاً في الهواء كعجيبة من عجائب الدنيا، وشاهداً على هوان الشعوب وانتقاص المقدسات من أطرافها وإتيان بنيانها من قواعدها، لكن من المهم تناول البيئة الحاضنة لمثل هذه الجريمة، ونعني بها المحيط المحلي للكيان الصهيوني، وتحديداً ما يتعلق بالضفة الغربية، المخزون المتوقع لأي انتفاضة أو ثورة من الممكن أن تخشاها "إسرائيل" ساعة اجترائها على المسجد المبارك.

لقد شهد حريق الأقصى قبل أربعين عاماً استنفاراً إسلامياً هائلاً في الداخل الفلسطيني إلى الحد الذي جعل سيارات الإطفاء تصل إلى الأقصى الشريف من رام الله والخليل قبل أن تأتي من داخل القدس ذاتها (مع الإقرار بحدوث تواطؤ صهيوني في تعطيل سيارات القدس عمداً)، وساهمت بقوة وهي تحت الاحتلال بشكل مباشر في إطفاء الحريق، لكن الضفة "المحررة" الآن مكبلة عن أي تحرك ولو كلامي لإنقاذ المسجد الأقصى الأسير، وهو يعاني من تهديدات الهدم.

ومن قروح الجرح، يبدو رفض رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس عقد قمة عربية من أجل الأقصى لسبب ظاهر يتعلق بخشيته من تداعي الانتقادات عليه بسبب جريمة تأجيل مناقشة تقرير اليهودي ريتشارد جولدستون في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، والتي تعددت لتفوق في حجمها الإعلامي مسألة الأقصى ذاتها، فيما السبب الخفي هو عدم رغبة أبي مازن وفريقه المتصهين في الحديث عن المسجد المبارك، ولا الدفاع عنه، بروح الفعال ولو لم نصدق هذا المقطع الصوتي له على موقع اليوتيوب، والذي قال فيه: "يا أخي مالنا ومال القدس، يعني الرسول عليه الصلاة والسلام ساب مكة، ذاك الرسول عنده وحي، أنا ما عندي وحي"!! فسواء أكان هذا المقطع منبتاً عن سياقه أو كان يستهزئ فيه بمسألة الدفاع عن الأقصى؛ فإن التخاذل لا يحتاج دوماً إلى أدلة صوتية، ما دامت الأفعال المشينة تعززه.  

أما الجرح ذاته؛ فيتعلق بهذه الجريمة التي لا محل لها من الاعتذار ولا الندم؛ تلك التي كان فيها اليهودي (الصهيوني كما يُعرف هو نفسَه) ريتشارد جولدستون رئيس لجنة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة، و"المسيحي" (الغربي) ريتشار فولك مقرر الأمم المتحدة الخاص لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة أكثر مقاربة للعدالة من رئيس السلطة الفلسطينية المنتهية ولايته محمود عباس ميرزا، الذي أوعز إلى ممثل السلطة الفلسطينية في جنيف إبراهيم خريشة ليطلب تأجيل النظر في التقرير..

كانت الجريمة متكاملة من جميع أبعادها؛ فالرجل طلب تغطيته من الدول العربية عبر تصدير أزمته الأخلاقية إليها حين قال إن عدداً من الدول العربية منها مصر وقطر طلبت تأجيل مناقشة التقرير؛ فتبرأت الدول منه، وصمت عن تأكيدات صهيونية أوردتها وكالة شهاب الفلسطينية للأنباء تفيد بأن تراجع السلطة، وفقاً لمصادرها الخاصة، كان بسبب عرض العقيد الصهيوني إيلي أفراهام فيلم فيديو على جهاز كمبيوتر أمام الوفدين الفلسطيني والصهيوني في واشنطن "لقاء وحوارا دار بين رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ووزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك بحضور وزيرة الخارجية السابقة تسيبي ليفني، وفيه ظهر عباس في التسجيل المصور وهو يحاول إقناع باراك بضرورة استمرار الحرب على غزة، فيما بدا باراك مترددا أمام حماسة عباس وتأييد ليفني لاستمرار الحرب"، وأعقب ذلك عرض لتسجيل مكالمة هاتفية "بين مدير مكتب رئاسة الأركان الإسرائيلية دوف فايسجلاس والطيب عبد الرحيم الأمين العام للرئاسة الفلسطينية، الذي قال فيها إن الظروف مواتية ومهيأة لدخول الجيش الإسرائيلي لمخيمي جباليا والشاطئ، مؤكدا أن سقوط المخيمين سينهي حكم حماس"، وأن عبد الرحيم قد بدا ـ كعادته ـ متحمساً ضد حماس وكل من انتخبوها..

ويضاف إلى ذلك أن بعضاً من المحسوبين على التيار الأمريكي في فتح، كنبيل عمرو، وغيره قد قفزوا من سفينة عباس، ونأوا بأنفسهم عن تبرير جريمة تأجيل جولدستون، لاسيما أن رئيس السلطة المنتهية ولايته قد تخبط في قراراته بعد سيل الانتقادات التي أمطرت فوق رأسه، لاسيما بعدما ردد فولك ذاته في المحافل الدولية تهمة التواطؤ مع "إسرائيل" لعباس، وخضوعه لضغوطاتها لاسيما تلك المتعلقة بصفقة الوطنية موبايل التي يملك نجل الرئيس المنتهية ولايته طارق عباس استثمارات فيها، والمضمون لفولك لم يزل!! وأخيراً استياء وزير الخارجية الصهيونية أفيجدور ليبرمان من السلطة لأنها "في الوقت الذي تتبنى فيه الآن تقرير جولدستون، فإنها تتناسى طلباتها المتكررة من إسرائيل بشن الحرب والقضاء على حكم حماس في غزة، وإلحاحها على عدم وقف الحرب"، وهو ما يرافقه تصريحات مماثلة من قادة الأجهزة الأمنية "الإسرائيلية".

هي فضيحة إذن بكافة المقاييس، لكن أكان هذا مستغرباً من محمود عباس وفريقه؟! بالطبع لا.. وهل كان تقرير جولدستون سيؤثر في الميزان العسكري والأمني شيئاً بين الفلسطينيين والصهاينة، أو كان سيفضي إلى تراجع "إسرائيل"؟! أيضاً، لم يكن ليفعل، غير أنه كسر حلقة أخرى من حلقات الصمود في الضفة الغربية، وأضعف قدرتها على التصدي أكثر لمسلسل تهويد القدس وإنهاء ملف الأقصى.

إن الأخطر ليس في كل ما تقدم؛ فهو مألوف، ومنتظر من أول يوم وطئت فيه قدما عباس المقاطعة، وكل المعلومات السابقة هي من قبيل المعلوم من السياسة العباسية الأوسلوية بالضرورة، لكن السؤال الأهم، هو لماذا استمرار حرق محمود عباس "إسرائيلياً" حتى آخر جزء من الورقة، وما السر في الرغبة في إضعافه لهذه الدرجة، وربما تغييبه تماماً عن المشهد بصورة أو بأخرى مستقبلاً؟!

المعضلة هي أن إضعاف عباس الآن قد لا يصب في مصلحة الفصائل المقاومة في الضفة، لأنها أيضاً قد أنهكت بفعل سياسة الجنرال الأمريكي دايتون، ولم تعد مؤشرات الصمود فيها تبلغ النقاط الأولى من المقياس.. لقد أسهم الحسم الأمني في غزة في تعزيز قوتها العسكرية، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث في الضفة، بل على العكس قد صارت دولة بوليسية يعز أن ترى فيها أي محاولة لمقاومة داخلها فضلاً عن أن تكون خارجها.

صحيح أن ثمة حزمة من الإجراءات صنعتها "إسرائيل" ضماناً لـ"أمنها"، ومنها الجدار الفاصل، ولكن ذلك لم يكن ليصبح فاعلاً ما لم تكن السياسة الأمنية للسلطة الفلسطينية الموالية للغرب قادرة على تكميم أفواه الفلسطينيين في الضفة، وملاحقة كل مقاوم من أي فصيل استرضاء لتل أبيب.

الآن، تحرق "إسرائيل" عباس.. هي تدرك ذلك بالفعل، ولا تهزل عندما تمطرنا بسيل من التسريبات التي للأسف ليس علينا إلا أن نصدقها في ظل جملة من الشواهد المماثلة المؤكدة، جميعها تصب في خانات التخاذل والإضرار بأمن الفلسطينيين القومي بشكل مباشر وفاعل، وهي تعرف جيداً حين ترغم عباس ثم تفضحه أنها تحرق البقية الباقية من تاريخه ـ وإن لم يكن مشرفاً بطبيعة الحال ـ ، بل وتحرج حماس؛ فتحول بينها والمصالحة، تلك التي يتعذر أن تقبل بها غزة في الوقت الحالي ـ على الأقل ـ اتقاء لضغوط شعبية في غزة، ولأنها ستبدو إذ تصالح السلطة أنها بشكل غير مباشر تضع يدها في يد "إسرائيل"..

وبالتالي يظل السؤال الأخطر قائماً: لماذا تحرقه "إسرائيل" الآن، وهي تدرك أنها بذلك تخلط الأوراق، وتنحى بالقضية برمتها في اتجاه قد يزيح حلفاءها.. إنها يبدو أنها واثقة أن الظروف ليست في صالح المقاومة الفلسطينية في الضفة، وأن إنهاكها قد نجح على يد ضعفاء النفوس في الضفة، ولم تعد تلك المقاومة في وارد تصدر الموقف بشكل حاسم، ولا قادرة على تفجير انتفاضة أقصى جديدة ـ مثلما ورد على لسان مسؤولين صهاينة عديدين ـ ولا القيام بعمليات نوعية، لاسيما أن صفقة شاليط مثلما تغل يد تل أبيب، تصنع الشيء عينه مع حماس، والظروف كلها لا تصب في مصلحة الفلسطينيين في الضفة، وبالتالي لا تصب في مصلحة الأقصى ذاته، ولذا ليس غريباً أن يتزامن العدوان مع تراجع النظر في تقرير جولدستون وانتشار فضائحه..

وكثيرون قد سعدوا لانكشاف عباس أكثر في الأزمة الأخيرة، ويتمنون غيابه عن منصبه، لكن في العمق تكمن الحقيقة جلية أكثر... إن التقرير لن يعيد الشهداء ولن يحمي الأقصى، والمعير لنا في الواقع ألا نقرأ اللحظة كما هي بألمها، وتفاصيلها..

دعونا من الخارج، وبؤسه؛ فالجديد الآن أخطر، إن الضفة مشلولة، والقدس مغلولة، الاستحقاقات متزاحمة، وما من سبيل إلا بتحريك الموقف باتجاه إعادة وهج الصمود من داخل الضفة مرة أخرى، فهي حاضنة القدس، ومبعث المقاومة..

ــــــــــــــ







[email protected]