مع علمي بتفاهة الدعوى، فإنني سأجد تعقيباً، يمتّن هامش ما خطّ الرجل الكيلويّ، ابن حجر زمانه، وشيخ تراجم رجال أوانه، لا جرحاً وتعديلاً، وقدحاً وتفضيلاً فحسب، وإنما وزْن عفش، وعدّ "كراتين"، وكيْل حنطة؛ إذ العلم أضحى يُكال، والمعرفة أمست تُقاس بالكمية والأوزان، وعقول الرجال وعلومهم- ولو اختلفت أزمانهم ومشاربهم- جرامات بعضها على بعض.
كما أن الكاتب الجليلَ – غفر الله له- كتب ما كتب، وسبك مقالته في ارتياح بال، واطمئنان ضمير، واجتهاد في القول – كما زعم- وكأنّ الأمر رصيف سابلة، من شاء أقام، ومن شاء ارتحل، من نوى أقام مدرسة مشائية، ومن نوى كتب في صحيفة مقالاً يعلن فيه تفوّق حجم معلومات (الهاردسك) خاصة جورج طرابيشي، على كراستين كان يحفظها أفلاطون الممعن قدماً وتأخراً.
وللعلم، فهذا الحديث أكتبه ترفاً، وأخطه عبثاً، كون الأمر لا يرقى ليحظى بجودة الفهم، وسلامة المنتوى. وللشاعر الغابر: أمل دنقل – والذي لا بدّ أن يكون شاعر المليون أشعر منه لتأخره-، أريد أن أقول: هي أشياء تُشترى، وتُباع، وتُوزن. وهي مجرد خواطر على حبل غسيل تُنشر، وأفكار ما أقر العقل لها من سلطان، حين يعمد كائن، يسجل في مطلع نصه اجتهاده واطمئنانه وارتياحه- لا في فورة غضب، ولا نشوة معرفة إذاً- أنّ فلاناً أعلم من فلان، ولو تباعدت بينهما الدهور، ومضت بأحدهما نواميس القبور.
قد يقبل العقلاء من "راشد" حين يقول: إن ابن رشد أعلم من الغزالي مثلاً أو عكس ذلك، كونهما في الزمان سواء، وفي العلم قرنين، لكنهم لن يقبلوا من "راشد آخرَ" أن يعلن تفوق المتأخر على المتقدم في أمور غير توقيفية؛ إذ العلم لا يزال تراكميًّا، إنشائيًّا، تنمويًّا.
هذا الجابريّ يا عالم الزمان، فضل شهرته عائد لهذا الرشد المتأخر-إنْ في دراساته عليه، وإنْ في مقالاته عنه- وإن لم تعلم هذا فاسأله بنفسك، وهو بها أخبر، أيجرؤ باحث تلميذ متأخر، في تراث موسوعيّ متقدم أن يقول إنه قد أحاط بكل ما صنع الماضويّ ذاك، وأنه الآن يفوقه، وشهاداته بعد لما تجفّ أحبارها من عنونة شروحاته على الأستاذ الكبير؟!
وكأني بك بعد اليوم، ترى من نفسكَ أحطت بما لم يحط به سقراط، وجئتنا من (أثينا) بعلم عظيم. وكأنّي بسقراط لو عاد، لأسدل ثوبه بين يدي جلالتكَ، تلميذاً ماضوياً أغبرَ، لم تُبْقِ له غبرة التاريخ شيئاً، ولاستعان بكَ في فتح "غوغل"، وتعبئة التأشيرة في موقع السفارة اليونانية. وبالمناسبة: هل تعرف اسم "المركبة" المتجولة التي يستخدمها "المشاؤون" في أثينا؟
وعلى "سالفة" القَبْـل التي يأخذ بها الشيخ ابن بجاد دليلاً على أفضلية المتأخر على المتقدم في الزمان، كونه أحاط بمجريات أمور لم يعلم بها الأول الغابر، أقول على هذا المنوال الدراسي الكيلويّ البجاديّ: يصبح كل مشتغل على تراث رمز معرفيّ أعلم منه به، ويمسي باحث عشريني فرنسي على مخطوطة لفرويد، أعلم منه في علم النفس، وطالبة تربية في جنوب إيطاليا، أعلم مائتي مرة من جان جاك روسو، ولأصبح فولتير وديدرو وابن حزم والغزالي وابن سينا وابن تيمية وباسكال وسارتر مجرد أنصاف متعلمين أمام طلبة أقسام الفلسفة والشريعة في أي جامعة من جامعات الدنيا، كون أولئك مضوا غابرين، والطلبة لايزالون يتابعون مقررات الدراسة المحيطة بنتاج السابقين واللاحقين من العام 2009 للميلاد – التأريخ ميلادي للزوم الحداثة-.
ابن رشد يا هذا فقيه، لغويّ، طبيب، مفسر، فلكي، مترجم، فلسفيّ، أرأيت "كراتينه" في العلم كثيرة، لا توازي حقائب الجابريّ الباحث الناشئ يدرس ابن رشد ولا يزال. ابن رشد يا هذا علّم الغرب، والجابري تعلم منهم – وفي تعلّمه هذا كلام؛ إذ التعليم لا يعني الترجمة والأخذ ليس إلاّ-. ابن رشد ترجم أرسطو كما لم يفعله أحد قبله، والجابريّ كل الذي صنعه، أن ترك للطاعنين عليه أكثر مما ترك للذابّين عنه، ولو لم يكن لجورج طرابيشي من سيئة إلاّ اشتغاله بكشفه لما كفاه، كونه سيغدو قدّيساً.
وليس الأمر بتنقيص الجابريّ – وإن فعلت أنت مع ابن رشد حين قرنته بالجابريّ التلميذ المتأخر-، ولا باباً لفتح نقاشات مطولة في نقد عقله، ولا عقل نقده، قدر ما هو إخبار للعموم بكونك اجترأت على فعل لم نشهده إلاّ في برامج "من سيربح المليون"، حينَ أجريتَ تصويتاً ذاتياً على عالمٍ كبير – يجدر بكَ أن تكون أحطت بابن رشد وما ألّف، والجابريّ وما خلّف-، وتأخذ بالنسبة التي تعجبك، وهذا راجع لتقدميّتك حدّ تأثّرك بالنسخة الأخيرة من تصويت البرنامج سالف الذكر.
بقي أن أخبرك أنّ إمام مسجدنا، هنديّ الجنسيّة، خريج الجامعة الإسلاميّة، باحث العلوم الشرعية، واعظ مجيد، يصلح لشغل أربعين منبراً، قرأ مقالتك الكيلويّة هذه، واستبشر فؤاده خيراً، وافترّ ثغره باسماً، لقد آن له أن يعلن بارتياح، وهدوء بال، وطمأنينة ضمير: أنّ الإمامين ابن الجوزيّ وابن القيّم، قد صارا منذ اليوم: تلميذين لديه.