تحولت مسألة الترشح لمنصب مدير عام منظمة اليونسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم)، إلى "صراع" حقيقي بل إلى "معركة" بكل معنى الكلمة، بعد أن تحولت مسألة التوافق على تعيين المدير الجديد إلى "حرب" شرسة خلال عملية الانتخاب التي دامت خمس جولات، على الرغم من كون المنصب الثقافي مجرد منصب "شرفي" في نظر كثير من دول العالم وقادته.
فمنذ إنشائها في عام 1946م ظلت هذه المنظمة الثقافية مسرحاً لصراع حضاري وسياسي بين دول الشمال ودول الجنوب، الأمر الذي أضعف من مواقفها وأعمالها في كثير من الأحيان. المرة الأولى التي رشح فيها مرشح عربي مسلم لرئاسة اليونسكو كانت في عام 1999م، وهو الوزير السعودي الدكتور غازي القصيبي، ومُنِيَ حينها بالهزيمة، رغم الجهود الكبيرة التي بُذلت من أجل إنجاحه عربياً وإسلامياً، فيما كانت خسارة وزير الثقافة المصري فاروق حسني في الانتخابات التي جرت قبل أيام هي المرة الثانية التي يخسر فيها مرشح عربي لرئاسة اليونسكو خلال عشرة أعوام.
وما إن أعلن الوزير المصري (حسني) عن ترشحه لرئاسة المنظمة الدولية، حتى بدأت وسائل الإعلام الغربية عموماً، والأمريكية على نحو خاص، حملة دعائية مكثفة لتشويه صورته واتهامه بمعاداة السامية ومحاربة الإبداع، على الرغم من كون (حسني) غير مرضي عنه في داخل الأكثرية بين المثقفين المصريين والعرب والمسلمين، بسبب مواقفه المتطرفة ضد ثقافة وطنه وتراثه والثوابت الاجتماعية، ومهاجمته الرموز الإسلامية أكثر من مرة، نتيجة قناعات مشوهة لديه،أو سعياً منه لمحو الصورة التي حاولت وسائل الإعلام الغربية وَسْمَه بها، ولاسيما تهمة معاداة السامية.
ومع اندلاع المعركة الإعلامية ضده، زادت حدة التنازلات من جانب (فاروق حسني) حتى أعلن عن رغبته في زيارة الكيان الصهيوني والاعتذار علناً في الكنيست الصهيوني عن زلة لسانه التي بدرت منه العام الماضي بحق الكتب "الإسرائيلية"، لكن الحملة الإعلامية المناوئة له بقيت على أشدها، ربما للحصول منه على مزيد من التراجعات والتنازلات. وكان في مقدمة المعارضين لتوليه المنصب سفراء كل من الولايات المتحدة وألمانيا واليابان، حتى إن سفير ألمانيا قال لسفراء الدول التي يحق لها التصويت: «اختاروا أي أحد غير فاروق حسني، فلا يمكن هذا الرجل الذي يحمل على رأسه اتهام العنصرية ضد اليهودية أن يصل لهذا المنصب الرفيع».
ومع ذلك، بقيت حظوظ المرشح المصري الأقوى والأوفر من بين المرشحين للمنصب، وبخاصة في ظل دعم الدول العربية والمتوسطية له، حتى بدا للعيان أن المنصب شبه محسوم لصالحه. ومما دعم موقف الوزير المصري وجود عدة مرشحين من الجانب الأوروبي، وهو ما أدى لتشتت الأصوات الأوروبية بين هؤلاء المرشحين، الأمر الذي أظهرته نتائج الدورة الأولى للتصويت، إذ حصل المرشح المصري على 22 صوتاً، في حين حصل أقرب منافسيه (بوكوفا) على 8 أصوات فقط، فترسخت القناعة لدى الجميع بقرب فوز المرشح المصري بالمنصب.
ولم يتوان المرشح المصري بعد انتهاء الجولة الرابعة من الانتخابات بالتعادل بينه وبين المرشحة البلغارية، عن وصف التكتلات الدولية ضده بأنها "تسييس للمنظمة" وأن "موقف منظمة اليونسكو ضده يجعل المنظمة سياسية وليست ثقافية"، ووجه التحية إلى ممثلي دول أمريكا اللاتينية والعرب والأفارقة والصين والهند لوقوفهم معه في مراحل المنافسة الأربع الأولى قائلاً: «إن مجتمعات الجنوب لقنوا الشمال درساً لن ينسوه»، في إشارة إلى تفوقه الملحوظ في الحصول على أعلى الأصوات طوال جولات الانتخابات قبل النهائية.
واشتكت مصادر مصرية رسمية مما أسمته "حملة أمريكية متعمدة" تستهدف إسقاط المرشح المصري لمنصب مدير اليونسكو، واعتبرت انسحاب المرشحة النمساوية (التي حصلت على 11 صوتاً) من السباق خدمةً لمنافسته البلغارية (التي كان لها 13 صوتاً فقط ارتفعت إلى 29 فجأة، ثم فازت في الجولة النهائية بـ31 صوتاً من 58 مقابل 27 للمرشح المصري الذي ظل متفوقاً بـ 29 صوتاً وكان يحتاج إلى صوت واحد للفوز). واستغربت القاهرة استمرار الحملة الشرسة التي يشنها المندوب الأمريكي الدائم لدى اليونسكو ضده، وبخاصة أن مصر سبق لها الحصول على تأكيدات بأن الإدارة الأمريكية وإن كانت تعارض انتخاب فاروق حسني مديراً عاماً لليونسكو، فإنها لا تنوي إجهاض ترشيحه، واعتبرت الصحف المصرية أن التحركات الأمريكية الهادفة لإسقاط المرشح العربي ستؤدي إلى "تعميق الهوة بين الحضارات والثقافات والأديان".
إن معركة الترشح لمنصب المدير العام لمنظمة اليونيسكو انتهت، لكن تداعياتها سوف تستمر وستظل مهيمنة على خاسري تلك "المعركة"، فنظرية المؤامرة التي برر بها المرشح المصري خسارته للمنصب وتداعي الدول الغربية على رفض تنصيبه على قمة هرم المنظمة الثقافية سوف تعزز من حالة العداء أو الحرب الباردة بين حضارات الشمال والجنوب وثقافاتها، وستفتح الباب أمام تحليلات ودراسات تؤكد زيف سعي الغرب لتجاوز حالة العداء بينه وبين العالم العربي والإسلامي في الفترة الأخيرة، وتحديداً منذ تولي الرئيس الأمريكي باراك أوباما السلطة.
وإن الغرب الثقافي والسياسي ما زال يهيمن على كل منظمات الأمم المتحدة ويرفض التفريط فيها منذ انتصاره في الحرب العالمية الثانية ولا سيما عقب انتهاء الحرب الباردة وإطلالة عصر "العولمة"، وإن هناك رغبة صهيونية محمومة عكستها الحملة الشرسة ضد الوزير المصري في بداية المعركة، في عدم فوز مرشح عربي أو مسلم برئاسة اليونسكو في الوقت الذي يسعى فيه الكيان الصهيوني بكل الوسائل لتنفيذ الشق الأخير من عملية تهويد القدس العربية، حرصاً منه على عدم فضح مخططاتها من خلال منظمة اليونيسكو. وهو ما يفسر أن وزارة خارجية العدو كانت أول من هنأ المرشحة البلغارية بانتصارها.
وقد بدت الدبلوماسية المصرية على رأس الخاسرين في هذه المعمعة التي جندت لها كل وسائلها وثقلها لكسب المنصب، وبرهنت على تراجع ثقل مصر على المستوى الدولي، بعد أن تراجع على المستويين العربي والإقليمي، وأضحت منظمة اليونسكو مجرد أداة سياسية، لا ثقافية فحسب، في الصراع بين الشمال والجنوب، وإحدى أدوات السياسة الأمريكية لفرض هيمنتها على العالم.
ويبدو أن المكاسب التي حصلت عليها تل أبيب في مقابل التراجع "الشكلي" عن موقفها المعارض لترشح (حسني) مثل تنفيذ خطوات تطبيعية ثقافية عديدة (ترميم آثار يهودية، استقبال موسيقار إسرائيلي، ترجمة كتب أدبية إسرائيلية للعربية) وغيرها كانت مجرد مقدمة لمواصلة ابتزاز النظام المصري وممارسة التطبيع الثقافي الذي طالبت به مع الإدارة الأمريكية حتى قبل التعهد بوقف الاستيطان، فيما الراجح أن جميع تلك المغريات والتنازلات المصرية لم تنجح في كسر حدة المعارضة الإسرائيلية والغربية (الأمريكية خاصة) لترشح الوزير المصري، أو التعتيم على أهمية استكمال مشروع تهويد القدس وتقدمه على أي خطوات تطبيعية طالبت بها الحكومة الصهيونية وجعلتها حجر عثرة أمام استئناف المفاوضات التي باتت مطلباً هامشياً وثانوياً لابتزاز اللاهثين وراء سراب السلام المتبدد.