أحداث نيجيريا مرة أخرى
28 شعبان 1430
د. محمد يحيى
عندما بدأت أجهزة الإعلام الغربية والتي تنقل عنها في العالم العربي الحديث عن الأحداث الأخيرة في نيجيريا فإنها اتهمت الجماعة التي اشتبكت مع أجهزة الأمن في ذلك البلد بأنها تسمى أو توصف بأنها طالبان نيجيريا أو أفريقيا، وكان هذا الوصف في حد ذاته يشير إلى نوع من أنواع الانحياز في الإعلام يدل على رغبة في تشويه القضية منذ البداية لأن طالبان ترتبط في تغطيات الإعلام الغربي والإعلام التابع له بكل أنماط الإرهاب والتطرف والتشدد والجمود وما أشبه بحيث أن وصف أية جماعة أو حزب بأنه طالبان أفريقيا أو طالبان آسيا أو طالبان هذا البلد أو ذاك يدل منذ البداية على رغبة في تشويه صورة تلك الجماعة وفي الحكم المسبق عليها في أنظار الرأي العام بأنها جماعة تستحق الملاحقة والتدمير مثلما لاحق الغرب جماعة الطالبان في أفغانستان ويلاحقها الآن في باكستان، وكما يلاحق الغرب التنظيم الذي وصفوه باسم القاعدة داخل أفغانستان وخارجها وصولاً إلى أمريكا نفسها.
وامتدت المتابعة الإعلامية المريبة للغرب وصف الجماعة بأن فكرتها الأساسية تقوم على تحريم التعليم الغربي، وهذه فكرة عجيبة قد لا تستدعي أن تقوم بسببها أحداث تؤدي إلى أن يشتبك مئات من الأشخاص غير مسلحين إلا بأسلحة بدائية مع قوات الجيش والأمن النيجيرية المدربة والمسلحة جيدًا، بحيث تنتهي هذه المواجهات إلى إبادة تلك الجماعة نهائيًا فيما يشبه الانتحار رغم أن السلطات قالت أن الجماعة هي التي بدأت ذلك الهجوم عليها، وهنا يثور سؤال: هل كانت الجماعة فعلا تقوم على تحريم أنظمة التعليم الغربية أم أنها تقوم على أبعد من ذلك؟
من الإشارات المهمة في ذلك المجال هو ما ذكر في تغطية للإذاعة البريطانية ذكرت أن منظمات التنصير الغربية تنشط في شمال نيجيريا المسلم وأنها منذ عقود من العمل الدؤوب قد نجحت في تحويل الكثير من المسلمين في تلك المناطق إلى عقيدتها الكنسية وقدرت البي بي سي أن أربعين في المائة الآن من سكان تلك المناطق هم من المتنصرين.
وهنا نسأل: هل كانت الجماعة التي أسميت باسم "بوكو حرام" تحارب فعلاً التعليم الغربي أم أنها كانت في الحقيقة تحارب ذلك الانتشار السرطاني المريب لمنظمات التنصير الغربية الذي قضى على إمكانية تحول شمال نيجيريا، بل وجنوبها أيضًا إلى بلدِ إسلامي بالكامل، ولهذا السؤال أسباب لاسيما إذا عرفنا أن أحد أهم أسباب انتشار حركة التنصير وأسباب نجاحها هي أنها تعتمد على مؤسسات اجتماعية على رأسها المدارس، ومعها المستشفيات والمستوصفات وجمعيات الخدمة الأخرى التي تزعم أنها تعمل على تنمية المجتمع اقتصاديًا وإنسانيًا.
إذن هناك في قصة هذه الجماعة أشياء مريبة لأنه لا يعقل أن تقوم جماعة على فكرة واحدة فقط، هي تحريم التعليم الغربي أو حتى تحريم مظاهر الحضارة الغربية دون أن يكون لها برنامج آخر، ففي حالة طالبان مثلاً التي شبهت هذه الجماعة النيجيرية بها؛ كانت هناك الدعوة إلى تطبيق الشريعة أو إلى استقلال أفغانستان عن الحكم الشيوعي ثم عن النفوذ الغربي، أما في حالة هذه الجماعة النيجيرية فلا نجد أي إشارة لأي برامج أو أهداف أخرى، كما أن سلوكها العجيب في الاشتباك مع الشرطة والجيش هو في حد ذاته عمل من أعمال الانتحار لأنه من الواضح أنها جماعة غير مدربة ولا منظمة على الاشتباك، كما أنها لم تعد الأرض جيدًا لمثل هذه الاشتباكات العنيفة، والدليل على ذلك هو هزيمتها السريعة، بل ومقتل رئيسها ومعظم إن لم يكن كل أفرادها في أيام قليلة، بينما في حركة طالبان كان هناك إعداد للأرضية، وجذب لعقول وقلوب الناس في أفغانستان أو في باكستان قبل النهوض إلى مهام قتالية ضد الحكومات القائمة في تلك البلدان أو ضد الاحتلال السوفيتي أو النفوذ الغربي المتصاعد هناك.
إن الأحداث التي شغلت الناس في نيجيريا لعدة أيام ثم اختفت تمامًا من على شبكات الإعلام هي أحداث مريبة لابد أن لها خلفيات أبعد من مجرد مجموعة من المجانين الذين يريدون الانتحار بالدخول في مواجهة مع الشرطة والجيش بأسلحة بدائية وكل فكرتهم هي تحريم المدارس الغربية.
إن هناك أشياء مخفية، وهي أشياء تتعلق حتمًا بالنشاط التنصيري المتزايد في شمال نيجيريا وفي غيرها.
إن هذه الجماعة ربما تكون أحد أشكال مقاومة هذا الزحف أو هذا المد التنصيري الجارف، وهي مقاومة شهدنا في السنوات الأخيرة مثلها على يد جماعات أخرى في أماكن متعددة من شمال نيجيريا كانت كلها توصف بأنها أيضًا من جماعات الرافضين للحضارة الغربية والمتشددين المغرقين في الذهول والجاهلية، وكانت أيضًا تقضى عليها بقوة الجيش والبوليس وتباد في أيام أو أسابيع.
إن تكرار هذه الحركات في شمال نيجيريا يدل على أن أمرًا خطيرًا يجري هناك، وهذا الأمر قد استدعى على أقل الأحوال ردود فعل مجنونة وردود فعل عصبية تساوي أو توازي قوة وخطورة ما يحدث.
والسؤال الحقيقي ليس فقط حول ما هذا الشيء الذي يحدث في شمال نيجيريا بحيث يستدعي كل هذه الردود الفعل العنيفة وإنما هو أيضًا يدور حول موقف المسلمين أو الهيئات الإسلامية في نيجيريا مما يحدث وموقف الدول الإسلامية والعربية عمومًا من ذلك الذي يحدث ولذلك حديث آخر يغطيه ويتعامل فيه بما يناسبه.
غياب مؤسسات وفقدان البوصلة
إن الأحداث التي وقعت في نيجيريا من خلال قيام السلطات هناك بإبادة جماعة أسمتها في البداية بأنها طالبان أفريقيا ثم وصفتها بأنها جماعة تدعى بوكو حرام أو تحريم التعليم الغربي هي أحداث تستدعي الكثير من التساؤلات، ومما قد سبق يبدو أن هذه الأحداث إنما تدل على ردود أفعال شعبية على مستوى عامة المسلمين في شمال نيجيريا تجاه حدث ضخم يجري هناك وهو حدث الحملة التنصيرية الجارفة على تلك المنطقة ولأن هؤلاء المسلمين لا يجدون نصيرًا يساعدهم في دفع هذه الحملة أو ينظم جهودهم في مواجهتها، فإنه تنشأ بالتالي ردود أفعال عنيفة قد لا تكون محكومة وقد تكون خارجة تمامًا عن المفاهيم الإسلامية الصحيحة، ذلك على فرض إذا كان ما ينشره الإعلام الغربي عن تلك الحركات التي تنشأ هناك بمعدل سنوي تقريبًا هو صحيح، وقد انتهيت فيما تقدم إلى أن هناك مسؤولية في هذه الأحداث ليس فقط على الذين أشعلوها من حملات التنصير الغربي الناشطة هناك وإنما أيضًا على عاتق المؤسسات الإسلامية الموجودة في نيجيريا وعلى عاتق الدول العربية والإسلامية عمومًا التي تتابع الموقف هناك وكأنه يحدث في كوكب آخر دون أن تبالي به ودون أن تتدخل حتى ولو بمجرد طلبات استفسار عما يحدث.
إن نيجيريا بلد كبير وأعداد المسلمين فيها كثيرة جدًا، وهي تمثل الغالبية، ومع ذلك فيبدو أنه لا توجد لهؤلاء المسلمين مؤسسات أو تجمعات ينتظمون فيها وتعبر عن مصالحهم، وتضمهم وتعمل على إبعاد أي انحرافات عنهم، كما تعمل أيضًا على لم صفوفهم في مواجهة التحديات التي يقابلونها، وعلى رأسها تحدي الحملات التنصيرية، وانتشار النفوذ الغربي في المناطق التي كانت تعتبر عقر دار المسلمين.
إن الأحداث التي تشهدها نيجيريا في كل عام تقريبًا من ظهور حركات توصف في الإعلام الغربي بالمتطرفة أو بالمجنونة وتحدث بينها وبين قوات الأمن اشتباكات تنتهي في الغالب بإبادتها أو بفرار أعضائها هي أحداث تلفت النظر في أنه يبدو أن المسلمين في نيجيريا لا توجد لهم أية قيادة أو أية جماعة عامة ينتظمون فيها مثلما ينتظم المسيحيون في كنائسهم بحيث يكون لهذه المؤسسات الإسلامية دور في منع ظهور هذه الحركات التي كانت فعلاً متطرفة، أو على الأقل في معالجة الأسباب التي تؤدي إلى نشأتها أو في تعهد أعضائها وأفرادها محاولة التوجيه السليم والنصح والإرشاد إبعادًا لهم عن عمليات الانتحار الجماعي التي غالبًا ما تنتهي إليها مثل هذه الحركات.
إن المرء لا يتعجب من أن نيجيريا وهي بلد قوي وبلد غني كما أنه أيضًا بلد يعتبر ذا غالبية إسلامية لا يوجد فيها مثل هذا القدر الأساسي من التنظيمات أو الهيئات الإسلامية التي تستطيع متابعة ظواهر كهذه سواء نظرنا إليها كظواهر انحراف أو كظواهر ردود أفعال وتسعى إلى احتوائها وتوجيهها الاتجاه السليم الذي يخدم مصالح المسلمين ولا يؤدي إلى الفتن والصراعات كما لا يؤدي أيضًا إلى تشويه صورة الإسلام والمسلمين في أفريقيا، إلا أنه يبدو أن مثل هذه المؤسسات لا توجد أصلاً أو إن وجدت فهي على درجة من الضعف أو التخاذل بحيث لا تستطيع أن تقوم بمثل هذا العمل الأساسي ألا وهو عمل نصح وإرشاد المسلمين وتوجيههم ولملمة شملهم هناك ومساعدتهم على التوحد والتجمع ابتعادًا عن كل أشكال الفتنة أو التطرف أو الأشكال التي تؤدي إلى تدخل الخارج الغير الإسلامي في شؤونهم وكما تؤدي إلى تشويه صورتهم وصورة دينهم.
ولكن إذا كانت هذه المؤسسات النيجيرية الإسلامية غير موجودة وهو ما نستغرب له، فلماذا لا يكون هناك للدول العربية القريبة والبعيدة حتى منها دور في مثل هذا الأمر.
إننا نرى في هذه الأيام أشياء يتعجب لها المرء حينما نرى محاولات من دول عربية في مواجهة دول عربية أخرى تسعى إلى تحويل مذهبها الإسلامي من مذهب إلى مذهب آخر أو تسعى إلى تحويل أفكارها وتوجهاتها الإسلامية إلى توجهات البلد القائم بالدعوة فيها، ونشاهد وفرًا ممن يسمون أنفسهم بالدعاة الإسلاميين يطلون من شاشات التليفزيون وقنواته التي أخذت تظهر الآن تباعًا، ولكنهم يوجهون كل كلامهم إلى مسلمين أصلاً، وهم حتى لا يحاولون تعميق إيمان هؤلاء المسلمين بل يحاولون في الغالب شدهم إلى قضايا فرعية هنا وهناك انتصاراً لمذهب أو لآخر أو لشيخ كما يسمى أو لآخر.
أما هؤلاء الأفارقة المسلمون الموجودون على مقربة بل على جوار مع العالم العربي وهم بالملايين الكثيرة فلا يجدون من يتوجه إليهم بقناة تليفزيونية أو بمحطة إذاعية حتى تنطق بلغتهم ولهجاتهم أو حتى بالإنجليزية وتحاول أن تنشر في وسطهم الأفكار الدينية السلمية كما تحاول نصحهم وإرشادهم بتثبيت عقيدتهم وإيمانهم في مواجهة حملات التنصير من ناحية وحملات نشر الأفكار المنحرفة والمتطرفة والزائغة من ناحية أخرى.
إننا هنا نتحدث عن هيئات ومنظمات إسلامية كبرى كان يفترض فيها أن تعمل على متابعة شؤون وأحوال المسلمين في كل أنحاء العالم لأن هذه المؤسسات قد عهدنا منها أنها تسير على طابع روتيني تقليدي ولا تبالي بما يحدث للمسلمين إلا بمقدار ما تحركها الحكومات والجهات المانحة لها والموجهة لها والتي تستعملها في شؤونها هي الخاصة وفي دعم سياساتها وتوجهاتها، ولكننا نعني في المقام الأول ذلك الكم الضخم من الدعاة الذين ظهروا على الساحة في الأعوام الأخيرة وربما على مدى العقد الماضي من السنين وكل جهدهم في الدعوة منصب إلى من هم مسلمون أصلاً ومن هم يعرفون ربهم أصلاً، بل إن هذا الجهل الدعوي لا ينصب كما قلت إلا في محاولات ضيقة لنشر مذهب على حساب مذهب أو لتغليب فكرة على حساب فكرة أخرى أو لتغييب تيار ديني في بلد عربي معين على حساب تيار ديني آخر في بلد ثان، لكن هذه المحاولات الدعوية كلها لا يتوجه أبدًا إلى من يستحقونها فعلاً، وهم هؤلاء المسلمون الذين يعانون في أفريقيا ويموتون بالمئات في نيجيريا في مذابح جماعية لا يعنى بها أحد وكأنهم ذباب أو بعوض.