إسرائيل وسؤال الهوية المتبددة
19 شعبان 1430
هشام منور

عنوان الكتاب: من هم اليهود؟ وما هي اليهودية؟.
المؤلف: د. عبد الوهاب المسيري.
عدد الصفحات: 395.
الناشر: دار الشروق، القاهرة، طبعة أولى، 2008م.

***

 

يكتسب الحديث عن الهوية الدينية للكيان الصهيوني أهمية بالغة في الآونة الأخيرة إثر تسارع خطوات قادة "إسرائيل" ومن يدعمها لرؤية حل نهائي شامل لواحدة من أقدم وأهم قضايا الكفاح الوطني في العالم:القضية الفلسطينية). ففيما تروج وسائل الإعلام الإسرائيلية والغربية، الأمريكية منها بالذات، لمشروع الدولتين المتجاورتين (الإسرائيلية والفلسطينية)، بحيث يكون العنصر الديني (اليهودي) مرتكزاً لتأسيس الأولى، في خلط غريب بين المقومين القومي والديني في تأسيس الدول الحديثة، تتناثر الأسئلة والإشكالات حول تحديد مفهوم واضح ومحدد لهوية "المواطن" اليهودي الذي سوف يشكل عماد هذه الدولة العنصرية الصرفة، وبالتوازي، مفهوم الدين اليهودي المعتد به أساساً لمنح "شرف" العضوية المفترضة. وتأتي أهمية الكتاب أيضاً من حيث كونه آخر ما صدر من مؤلفات المفكر الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري, إذ تمت كتابة مقدمة الكتاب قبل أشهر قليلة من وفاته في يوليو/تموز الفائت، ليتناول أسئلة الهوية ويحاول تحديد مفهوم واضح لها، ويبين انهيار شعار يهودية الدولة الذي تتبناه دولة الكيان الصهيوني.

 

يتناول الكتاب المكون من ثلاثة أبواب قضية تحديد المواطن اليهودي المستقبلي ضمن الدولة اليهودية المزمع تكوينها بعد طرد السكان الفلسطينيين من أراضي عام 1948م، ويؤكد على كونها قضية مصيرية تتعلق برؤية العالم والذات, وتحديد مصادر تضامن المجتمع الصهيوني و"شرعيته"دولياً. إذ يترتب على الفشل في إنجاز هذا التعريف إضعاف قدرة إسرائيل التعبوية, وتحطيم أسطورة الشرعية الصهيونية، ولذلك يصر الصهاينة على ما يسمونه "تهويد" كل شيء في فلسطين، إلا أن المؤلف يصر في النهاية على تخطئة المقولة التي تجعل من المشاكل الداخلية في إسرائيل سبباً في انهيار الكيان، لأن مقومات استمراره ليست داخلية بقدر ما هي خارجية تستند إلى الدعم الأمريكي وغياب الفعل العربي.

 

يبحث المؤلف في الباب الأول "تنوع الهويات اليهودية" وعدم وجود هوية يهودية واحدة, فهناك ثلاث جماعات يهودية أساسية هي السفارد والإشكناز والإسرائيليون. وعدد كبير من الجماعات الصغيرة الهامشية التي تؤمن بأشكال مختلفة من اليهودية، مما يجعل حديث الصهاينة عن وجود هوية يهودية واحدة أمراً صعب التصديق. فمن الجماعات اليهودية الهامشية أربعة أنواع في الهند, وهناك يهود الصين, ويهود جورجيا ويهود بخارى, وهناك اليهود السود في الولايات المتحدة والفلاشا في إثيوبيا. فضلاً عن يهود غرب إفريقيا واليهود العرب, وهنالك السامريون الذين يعيشون في نابلس, والقراؤون, ويهود الدونمة, ويهود شبه جزيرة القرم واليهود الأكراد, واليهود الإيرانيون وغيرهم.

 

ويتبنى المسيري تقسيماً جديداً لليهود الآن في العالم، فهناك اليهود ممن هم خارج فلسطين المحتلة وهويتهم ذات ملامح يهودية عرقية أو دينية, والبعد اليهودي فيها هامشي لا يؤثر في سلوك أعضاء الجماعات اليهودية. وهناك اليهود داخل فلسطين المحتلة، وهي هوية جديدة تسمى جيل "الصابرا", ويتنبأ الدارسون بأن "الصابرا" (وتعني الجيل الذي نشأ في فلسطين المحتلة ولم يأت من الخارج) سيكونون أغيارًا يتحدثون العبرية, ولا تربطهم بأعضاء الجماعات اليهودية في العالم سوى روابط واهية. وهناك اليهود المتدينون (الأرثوذكس).

 

يتناول الباب الثاني الجوانب الثقافية والتاريخية للجماعات اليهودية, ليؤكد الكتاب عدم وجود تاريخ موحد أو ثقافة يهودية واحدة, إذ تتنوع هذه العناصر بتنوع البيئة والحضارة التي كان يعيش فيها اليهودي قبل هجرته. فالعقيدة اليهودية في الصين على سبيل المثال اكتسبت مضمونًا صينيًّا, وفي الهند تأثرت اليهودية بنظام الجماعات المغلقة وبالعديد من الشعائر الهندوسية, أما في إثيوبيا فقد تأثرت اليهودية بالنصرانية والإسلام. والحال كذلك بالنسبة لليهود العرب والسلافيين. ويبحث المؤلف بعد ذلك في انشطارات اليهودية إلى فرق وطوائف في العصر الحديث، فيذكر منها الإصلاحية والمحافظة والتجديدية والأرثوذكسية والأرثوذكسية الجديدة واليهودية العلمانية, واليهودية الإثنية التي تتمثل في بعض الشعائر والعادات الفلكلورية.

 

ثم يتناول الكتاب إشكالية سؤال الهوية وأزمات المجتمع الصهيوني, فيشير إلى أن الإحصاءات تبين أن 58% مما يسمى بـ"الشعب اليهودي" لا يزال يعيش في "المنفى" بكامل إرادته ولا يوجد منه سوى 42% (4،9)ملايين نسمة) في فلسطين المحتلة. مما يعمق من خطورة قضية اندماج اليهود في مجتمعاتهم على حساب حلم الحركة الصهيونية في تجميع يهود العالم. ويورد الكتاب أرقاماً تشير إلى أهمية العامل الديمغرافي بالنسبة لإسرائيل في ظل صراعها مع من حولها، فقد بلغ عدد اليهود عام 1967 ثلاثة عشر مليونًا وثمانمائة ألف نسمة, وفي عام 1982 اثني عشر مليونًا وتسعمائة ألف نسمة, ويبلغ عدد اليهود حاليا (2008) حوالي ثلاثة عشر مليونًا فقط, مما يزيد من حدة الخلاف بين المتدينين والعلمانيين حول سؤال الهوية وإمكان تخفيف شروطها لاستيعاب قدر أكبر من المهاجرين.

 

ويرى المؤلف أن أزمة الهوية اليهودية سوف تتعمق في المستقبل بسبب التطورات الحاصلة داخل المستوطَن الصهيوني وخارجه , فداخلياً لم تؤد التطورات والآليات الاجتماعية إلى صهر العناصر اليهودية, وإنما ازدادت الصورة استقطابًا وتطرفًا، وبخاصة بين الهويات الرئيسية (الديني مقابل العلماني)، (الصابرا والإشكناز والسفارد)، كما يلاحظ تزايد معدلات العلمنة في المجتمع, وبحسب بعض الإحصاءات يبلغ عدد الملحدين 85% من "الإسرائيليين". ويرى المسيري أن ثمة تطورات جديدة ستجعل الدولة الصهيونية مجرد دولة استيطانية إحلالية ذات قشرة يهودية. مذكراً بمراحل الحركة الصهيونية، الأولى والتي وصلت ذروتها عام 1948 مع إعلان الدولة وطرد الفلسطينيين ووصول المهاجرين للاستيطان في أرض فلسطين. وبدأت الثانية عام 1967 حين قامت "إسرائيل" بضم الضفة الغربية وقطاع غزة. أما أبرز معالم المرحلة الثالثة الحالية، فتتلخص في تصاعد الأزمة الديمغرافية، وتغلغل الصهاينة في الأسواق العربية وتحولهم إلى دور الوسيط التجاري بسبب النظام العالمي الجديد. وظهور نخب عربية حاكمة مستعدة للعب دور الجماعة الوظيفية, والتي تخدم المصالح الغربية على حساب مصلحة شعوبها المقهورة والمستلبة في الحقوق والديار على حد سواء.