وماذا بعد أن يصل "الشباب" إلى مقديشو؟!
25 جمادى الأول 1430
أمير سعيد







[email protected]

في بلاد تسمع أصوات الرصاص قبل وبعد كل حوار، يتعذر أحياناً تمييز أهداف حروبها أو فهم مكنوناتها؛ فما ينتفض له البعض اليوم ينقضونه غداً، ومن يبجلونه في لحظة يخونونه في أخرى تالية، وفي حرب تتبدل أهدافها بسرعة كلما سكن "قصر" الرئاسة أحد، يتفق الجميع حينها على إخراجه منه ويختلفون حول خليفته، يصبح تفسير مجرياتها وفقاً لأفكار أيديولوجية أو مصالح آنية عبثياً.

حتى كتابة هذه السطور تدور معارك طاحنة حول العاصمة الصومالية مقديشو تحت شعار طرد القوات الإفريقية "الصليبية"، وتطبيق الشريعة الإسلامية في البلاد، وقد استشهد كالعادة من الأهالي من لا يدركون لِمَ قتلوا أو صاروا وقوداً لحرب لا تنتهي.

كان الجميع يترقب بحذر هذا الأفق المشحون بأجواء التخوين المقابل والتثوير الذاتي، وبدا أن القادم سيكون دموياً، وشرع المسلحون في جس النبض العسكري في الميدان، وما هي إلا أسابيع حتى جاءت الفتوى من أقصى الأرض تنهي هذا الترقب وتنسف آمال التوافق الداخلي.

صدرت في تلك الأثناء فتوى من أفغانستان أو باكستان فيما يبدو أو ربما في مكان ثالث تنص على تكفير زعيم المحاكم الإسلامية السابق، رئيس الصومال الحالي، شيخ شريف أحمد، وفي مستهلها الثناء على من يفهم مثل فهم صاحب الفتوى، وتلك تقول: " لم تنطل عليكم حيلة الكرزايات القديمة في المنطقة، قاموا بتبديله وجاءوا بنسخة أخرى معدلة، كنسخة سياف ورباني وأحمد شاه مسعود. فقد كانوا من قادة المجاهدين الأفغان، ثم ارتدوا على أعقابهم وساعد حلفهم أمريكا لإسقاط الإمارة الإسلامية في أفغانستان: وكذلك حال شيخ شريف، فقد كان رئيساً للمحاكم الإسلامية ومع المجاهدين، ولكنه نتيجة لإغراءات وعروض من المبعوثة الأمريكية في كينيا، غير وبدل وارتد على عقبيه، ووافق على إشراك القوانين الوضعية الكفرية مع الشريعة الإسلامية لإقامة حكومة وحدة وطنية، وهذا الإشراك هو الشرك الأكبر المخرج من الملة. وكيف يصدق العقلاء أن أعداء الأمس على أساس ديني يصبحون أولياء اليوم، فهذا لا يكون إلا بتخلي أحد الطرفين عن دينه، فانظروا من الذي تخلى: هل هو شيخ شريف أم أمريكا؟ وتدبروا قول الله تعالى  : { إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُم وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } ".. هذه الفتوى التي صدرت عن زعيم تنظيم القاعدة، وهو بالمناسبة لا يقدم نفسه للأمة الإسلامية كعالم، وتخلو سيرته الذاتية المعلنة مما يعزز قناعة مجافية لهذه عند محازبيه، تكفر عينياً وبصيغة صريحة وواضحة الرئيس الصومالي مستندة إلى حيثيات تفترض إحجام شيخ شريف أحمد عن تطبيق الشريعة على فرض قدرته على ذلك، برغم تصديقه على تطبيقها الصادر عن البرلمان الصومالي، وتفترض شبهاً بين حالة تحالف الشمال الأفغاني الذي ساهم في إطاحة طالبان قبل سبع سنوات ونيف، وحالة حكومة الرئيس الصومالي شريف التي لم ترث دولة طالبانية وإنما نظام الرئيس السابق العقيد عبدالله يوسف، وتفترض الاطلاع عما دار من حوار تحدثت عنه الأنباء الغربية حينها عن أن شيخ شريف التقى المبعوثة أو السفيرة الأمريكية في كينيا، وأن شريف قد قدم في اللقاء وعوداً تتضمن الإحجام عن تطبيق الشريعة بشكل كامل في الصومال حال توليه الحكم في الصومال، وتفترض أن الولايات المتحدة وأنصار شريف قد صاروا أولياء بعد أن كانوا أعداء نتيجة لأن أحد الطرفين تخلى عن دينه واتبع دين الآخر. وتفترض بالتبعية أن الولايات المتحدة كانت قد تخلت عن دينها حينما مدت "المجاهدين الأفغان" بالسلاح إبان احتلال السوفييت لأفغانستان، أو تخلى لها "المجاهدون" عن دينهم.

على كل حال، تلك مسائل يناقشها العلماء، ولربما كان لشيخ شريف خريج كلية الشريعة ما ينافح به عن مواقفه، أو يعجز عن تفسيرها؛ فهذه لم تعد هي المشكلة بالأساس، إذ إن الفتوى عينها قد تجاوزت ذلك من تخوين وتكفير الأعيان في نظام الرئيس الصومالي شيخ شريف أحمد إلى قطع جسور المصالحة والتوافق حين قالت: "إخواني المسلمين في الصومال: ينبغي الحذر من المبادرات التي تلبس عباءة الإسلام والمؤسسات الدينية، في حين أنها تخالف أحكام الشريعة الإسلامية، كالمبادرة المنسوبة لبعض علماء الصومال بإعطاء شيخ شريف ستة أشهر لتطبيق الشريعة الإسلامية، فهم يطالبونه بأمر إنما نصب لهدمه فكيف يقيمه؟ فهؤلاء إما أنهم لا يفقهون الواقع وإما أنهم يستغفلوننا، فمبادرتهم هذه خيانة ظاهرة للأمانة."، بما يعني على الفور تخوين كل العلماء في الصومال وفي خارجها، كتلك التي قام بها الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، ونداء الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة، والحملة العالمية لمقاومة العدوان التي يترأسها الشيخ الدكتور سفر الحوالي، والتي أرسلت وفداً من علماء السعودية والسودان وغيرهما للصومال بغية المصالحة، وحياهم العديد من العلماء، ومنهم الشيخ الدكتور ناصر العمر.

لقد خونت الفتوى صراحة علماء الصومال بزعامة الشيخ بشير صلاد، وبالتبعية كل من انتهج خطها التصالحي ممن تقدم ذكرهم ـ حفظهم الله ـ واعتبرت الجميع يلبسون عباءة الإسلام والمؤسسات الدينية، وانفردت برأي فرد نجهل على وجه اليقين خلفياته الدينية المعرفية التي ربما يثبت فيها ما شاء الله لأنصاره أن يقولوا، غير أننا ندرك منها يقيناً مناهج التعليم الثانوي الدينية، وما دونها، من دون أن نمنح أنفسنا ـ للإنصاف ـ حق الحكم على علم أحد مع ذلك.

الأهم في كل الفتوى التي ختمت بعبارة صريحة تلقفتها حركة شباب المجاهدين على الفور، بالقول: "فالواجب قتال الحكومة المرتدة، وليس إيقاف القتال ضدها"، أنها قطعت الطريق أمام المصالحة وإيجاد مخرج غير دموي للأزمة التي باتت تهدد بدخول القضية الصومالية مرحلة الموت السريري.

والآن، وبعد أن قتل نحو مائتين وجرح نحو خمسمائة وإخراج عشرات الآلاف من بيوتهم حتى كتابة هذه الكلمات وفقاً لأقل الإحصاءات خجلاً، من حقنا ـ كمسلمين وكعرب ـ أن نسأل المسلحين الذين يقاتلون إخوانهم بالأساس، والقوات الإفريقية بالتبعية، متى يتحقق نصركم الذي ترجون ويرجوه المشجعون على القتال في أقصى الأرض؟!

وهل تملكون مشروعاً حضارياً لحكم الصومال، وتحقيق استقراره؟ وأعجل وآكد من ذلك، هل لديكم "ضمانات" حقيقية لعدم تكرار سيناريو نهاية 2006 عندما اضطرت قوات المحاكم الإسلامية إلى ترك العاصمة بهدوء عند احتلال الإثيوبيين لها تحت مظلة الحماية والتوجيه الراداري الأمريكي؟! هل تعولون على انشغال الولايات المتحدة الأمريكية عنكم أم تلقى البعض تأكيدات من الرئيس الإرتري إسياس أفورقي المتهم بالولاء لتل أبيب، والتي احتضنت المعارضة المسلحة لفترة من الزمان، ولم تزل تتحدث التقارير الغربية ـ غير المؤكدة ـ عن وجود معسكرات للشباب فيها، (تلك التقارير ـ بالمناسبة ـ التي تحدثت عن مشاركة الشباب في القتال إلى جوار "حزب الله" اللبناني، ولا نجد أنفسنا مضطرين لتصديقها بأي حال).

من حقنا أن نسأل: ماذا لو كررت الولايات المتحدة القصف، وزحفت إثيوبيا مجدداً تحت مظلة دولية، هل سيتكرر السيناريو السابق في مقديشو وكذلك في كابل، عندما آثر حكامهما ترك العاصمتين حقناً لدماء الأهالي؟ هل سيتكرر السيناريو ويدور الجميع في حلقة مفرغة، وتستنسخ وضعية الكر والفر إلى أن يتمكن "الشباب" من هزيمة الولايات المتحدة و"فتح ألاسكا" مثلما ورد في أدبيات الحركة.. لاسيما أن الولايات المتحدة تتذرع بأن لها مطالباً تتعلق بتسليم بعض المعارضين الذين تتهمهم بالضلوع في تفجير سفارتها في تنزانيا؟!

وهل ستضطر الحركة ـ إذا ما استتب لها الأمر في العاصمة ـ أن تستدرج الولايات المتحدة الأمريكية للقتال عبر ضرب أبراجها مثلما فعل غيرها؟!

لا يغيب عنا التوكل على الله عز وجل، ولا الثقة بتأييده للمؤمنين، لكن أيكون الطمع بالتأييد والنصرة إذا ما كانت أولى خطوات "الانتصار" بسفك دماء إخواننا الفقراء المستضعفين في عاصمة القهر والضياع، مقديشو؟!

إن الصومال الذي يعاني كغيره في القرن الإفريقي من الفقر المدقع، ويستعد لاستقبال مجاعة تقول الأمم المتحدة أنها تهدد 19 مليون شخص هناك، يحتاج لقدر من الحكمة في التخطيط لرسم مستقبله ـ بإذن الله ـ، ولا ينبغي أن يفهم من ذلك أن الإجابة عن هذه الأسئلة يعني بالضرورة التسليم بصوابية جناح شيخ شريف، ورؤيته لحل مشكلة الصومال، بل التعويل ـ بعد الله سبحانه ـ على حكمة الوسطاء ودرايتهم وحسن تصرفهم، وإذعان الشباب الصومالي لدعوات حقن الدماء والسعي لحل مشاكل المسلمين عبر الوسائل الحوارية؛ فالجميع يدرك حرج الوضع الذي ألجأ جناحاً من المحاكم إلى جيبوتي وآخر إلى إرتريا، مع ما يحمله ذلك كله من ضغوط على الطرفين، لابد أن تجعل الحادبون على الشعب الصومالي أقل اندفاعاً في توزيع صكوك البراءة لطرف، وتحميل المذمة والتخوين وحتى التكفير للآخر، بما يجافي الإنصاف والعدل.. أما مسألة تطبيق الشريعة؛ فنخال علماءنا أقدر من محدودي العلم على تحقيق مقاصد الشريعة وتحرير المواقف وإنزال الأحكام على مناطاتها.. ولا حاجة للقفز فوق الأصول واحتكار تفسير آيات القرآن بما يتراءى للبسطاء.. وأما العلماء فنظنهم جميعاً قد قرؤوا هذه الآيات من قبل أيها الشباب!!