هل ينجح علماء الدين بتحريك الوعي الجزائري نحو الأفضل؟
13 جمادى الأول 1430
ياسمينة صالح







عندما أبدى الشيخ عائض القرني ابتهاجه من الإقبال الكبير للشباب على محاضراته الدينية التي ألقاها، اعترف في الوقت نفسه أن الجزائر ـ رغم مشاكلها ـ تبقى بخير في عدد شبابها الراغب في التعرف على دينه وفق ما في الدين من قدرة على تغيير المرء في نفسه نحو الأحسن، فالدين المعاملة، وهو أيضا السلوك الصائب والإنساني الذي من المستحيل أن يكون معوجا طالما يحمل بذرة اليقين أن الله ينظر ويراقب، تلك الصورة التي ما زال الجزائريون يحملونها في أعماقهم تلمسها شيوخ الدين الأفاضل في زيارتهم الأخيرة إلى الجزائر منذ أسابيع، بحيث أن أخبار الاقتتال والمجازر التي غطت سنوات الدم في البلاد، لم ينجح من حوّلوها إلى دمار شامل لإخراج الجزائريين عن دينهم، على الرغم من الحرب المزدوجة التي يشنها المبشرون على الشباب لأجل تنصيرهم بحجة أن الإسلام هو الذي صنع الجماعات "الإرهابية" ! فقد اعترف أحد الشباب الذين عادوا ـ بفضل الله ثم بفضل فطرتهم ـ إلى رشدهم وإلى دينهم أن الباب الذي يدخل منه المبشرون هو نفسه " المال والفتن" بحيث أنهم يربطون في مخيلة الشباب بين الإسلام و العنف، وإن استطاع هؤلاء المبشرون إغراء ضعفاء النفوس من الجزائريين إلا أن ثمة شباب متمسك بعقيدته ويريد أن ينهل من الإسلام ما يفتح نفسه على الحياة والعطاء والعمل والإنتاج لأجل نفسه وأمته، لهذا كانت قيمة هذه الزيارات المهمة لعلماء الدين إلى الجزائر أنها فتحت الباب على استقطاب الناس البسطاء للحوار وإلى معالم الدين الراقية المتمثلة في تهذيب النفس، وهي الخطوة المهمة والكبيرة لقطع الطريق أمام كل الخونة الذين يشككون في قدرة الإسلام على العطاء، ولقطع الطريق أمام المؤسسات التبشيرية التي تستغل أولا وأخيرا الأوضاع الاقتصادية المزرية للجزائريين عبر شراء ذمم الضعفاء بالمال!

 

أول الغيث قطرة:

لقد استطاع العلماء وعلماء الدين الوافدين على الجزائر أن يتلمسوا تلك الحقيقة التي حاولت وسائل الإعلام المأجورة والغربية جاهدة التشكيك فيها وهي عروبة الجزائريين، على غرار ما فعلته إحدى المحطات الفضائية وهي تسجل برنامجا عن الجزائر وتصف سكانها بأنهم فرانكفونيين لا يفقهون في العربية شيئا، وهي مغالطة خطيرة كرستها الدول الاستعمارية ومازلت تروّج لها بكل أسف بعض التلفزيونات العربية في محاولة إثارة الشك في الهوية الجزائرية المرتبطة ارتباطا كبيرا بهوية الشهداء، بحيث إن الحديث عن الشهداء من المستحيل أن يكون حديثا تغريبيا، بل حديثا ضاربا في القومية والإسلام، فمن كان يصرخ إبان الخمسينات من القرن الماضي في وجه الاستعمار الفرنسي "الله أكبر" كان يمارس قناعته التي ورثها عن أبيه وعن جده بأنه عربي مسلم، وأن الدفاع عن الوطن جزء لا يتجزأ عن الدفاع عن الهوية العربية والإسلامية، على الرغم من الإسقاطات التي حدثت بعد الاستقلال عبر جملة من الممارسات التي أبعدت فيها التربية الدينية لأسباب بعضها معروف وبعضها يطول شرحه، بيد أن وسائل الإعلام الفرنسية والمفرنسة في الجزائر، وأبواقها في بعض الدول أرادت منذ سنوات طويلة أن توهم الجزائريين بأنهم ليسوا عربا عندما كانت تتطرق إلى إشكالية البربر في شمال إفريقيا قبل الفتوحات الإسلامية، وحتى لو كان الأمر صحيحا "بتصرف" فهل ننكر أن البربر إبان الثورة التحريرية نفسها كانوا السباقين إلى الشهادة؟ بيد أنه لا يمكن أن ينكر التاريخ الحديث شهداء قدموا النفس والنفيس وأشهرهم "فاطمة نسومر" التي جاهدت في سبيل الله ثم الوطن واستشهدت كأول شهيدة في تاريخ الثورة الجزائرية منذ 1830 وكانت بربرية بلغة "التفريقيين الجدد" واستشهد قبلها وبعدها الكثير من خيرة رجال الوطن، فهل يمكن التشكيك في نزعة الجزائريين نحو خيار الشهادة والدين والوطن؟ حتى لو شكك الخونة من داخل الجزائر يظل انحياز الشعب إلى الدين شيئا واضحا، بدليل أنه في أول انتخابات نزيهة عاشتها الجزائر منذ الاستقلال عام 1992 صوّت الشعب على الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي خرجت من صلب الشعب، وهو الكلام الذي ينطبق على الشعب المغربي، أو التونسي الذي برغم " الحصار السياسي " ضده لا يمكن التشكيك في انحيازه إلى الدين فطريا.

 

لا للتنصير.. لا للعنف:

لا يختلف اثنان أن الخطاب الديني الذي صدر عن أكثر من عالم دين زار الجزائر في الأسابيع الماضية اشترك في نبذ العنف والمطالبة بالعودة إلى روح الدين المبني على التسامح، فقد استطاع أعداء الدين استغلال الكثير من الأخطاء البشرية لأجل الإساءة إلى الإسلام عبر ربطه مباشرة بالعنف والإرهاب، وهذا الاستغلال البشع جعل بكل أسف حوالي 100 ألف جزائري يرتد عن الإسلام في مناطق كثيرة من الجزائر، مثلما جعل بعض الصحف الجزائرية المأجورة تسوّق للمرتدين عبر الحديث عنهم بمنتهى المكر، وكأنها تتشفى في هذا الوطن المجروح، كما فعلت إحدى اليوميات المحلية وهي تتكلم عن شخص ارتد عن الإسلام مع ابنته التي قالت "لقد وجدت راحتي في المسيحية" !

 

مع أن أناجيلهم مليئة بكل أنواع التحقير للمرأة وهذه عينة واحدة فقط من رسالة بولس إلى كورنثوس يقول له فيها بالفم المليان!" "الرَّجُلَ لَمْ يُؤْخَذْ مِنَ الْمَرْأَةِ، بَلِ الْمَرْأَةُ أُخِذَتْ مِنَ الرَّجُلِ؛ وَالرَّجُلُ لَمْ يُوجَدْ لأَجْلِ الْمَرْأَةِ، بَلِ الْمَرْأَةُ وُجِدَتْ لأَجْلِ الرَّجُلِ، المرأة إذا حاضت فهي إشعاع نجاسة ينجس كل من حولها! فهل بعد هذا يمكن القول أن المسيحية أعطت للمرأة كرامتها وحقوقها؟! 

 

 لقد كانت إذا زيارة علماء الدين من المسلمين المشارقة ظاهرة مهمة جدا لوضع النقاط على الحروف، بالخصوص وأن وسائل الإعلام تفننت في الأعوام الماضية بوصف المسلمين بكل الأوصاف، وقد انفجرت بكل أسف حملة مضادة قادتها صحف فرانكفونية اتهمت فيها الجهات التي وجهت الدعوة إلى شيوخ الدين بأنها تحاول إغراق الجزائر في العنف ثانية، مع أن الخطاب الديني لهؤلاء يساهم في رسكلة الفكر الجهادي في الجزائر يأت الرصاصة يجب أن تصوب نحو الصهاينة وليس نحو الأبرياء من البسطاء والفقراء من أبناء الشعب، وهو المعنى الذي لخصه الشيخ عائض القرني في عبارة "الأمة بحاجة إلى الوعي والعقل وليس إلى التهور والجهل"، كما قال الشيخ وجدي غنيم مرددا حديث الرسول صلوات الله عليه و سلم: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده".

 وإن عاشت الجزائر أسابيع شديدة الدفء في وجودهم فلأن الغالبية يدركون أن الحل الوحيد يكمن في الدين، بعد إفلاس كل التجارب التي مرت على الجزائر ودول المغرب العربي وشمال إفريقيا، بداية من الاشتراكية إلى الرأسمالية إلى اللبرالية، في ظروف استفحلت فيه المشاكل وصارت الآفات تهدد الأسرة داخل البيوت، صار لزاما الحديث عن البديل الذي يجب أن يتأسس إلى جانب الخطاب الديني وهو الحراك السياسي والانتعاش الاقتصادي لإنقاذ الشعب من الانهيار، باعتبار أن أسباب العنف ما تزال قائمة، وإن لم يغير منها العنف قيد أنملة بل زاد فيها، إلا أن من الضروري عدم نسيان أن الخطاب الديني الذي يسعى إلى تهذيب النفس، يجب أن يكون بجانبه تغيير سياسي واجتماعي متوازن، وهو بلا شك ما يؤمن به الجزائريون الذين أرادوا ويريدون التغيير البناء نحو مجتمع مبني على العدالة الاجتماعية، بحيث يخاف الحاكم ربه قبل أن يخاف الأحزاب والانقلابات الطارئة!

  هذا أمر أدركه علماء الدين أيضا وهم يتكلمون عن ضرورة انفتاح الأجواء لأجل أداء جيد مبني على المشاركة الدينية في السياسة، لأننا لسنا فرنسا كي نعتبر الدين عالة على السياسة، وطالما الساسة "المحترمون!" لم ينجحوا في إخراج البلاد من مآسيها منذ أربعين عاما، فليس هنالك مناص من العودة إلى الأصل بكل أخلاقياته، حيث لا نصب ولا نهب ولا لصوصية مفضوحة على ذقون الشعب!

و(إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فان هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا)، وكما يقول الشيخ عبد الرحمن شيبان رئيس جمعية العلماء المسلمين فإن العنف لا مخرج له، ولا مناص من العودة إلى العقل لأجل إنقاذ البلاد، فالدين الذي عاش طوال تلك القرون سيعيش إلى الأبد.