واشنطن والسعي لتخريب مؤسسات باكستان
2 جمادى الأول 1430
علي مطر




يعتبر الجهل الامريكي بالحقائق القائمة على الارض في باكستان بمثابة تهديد خطير لهذا البلد، سواء فيما يتعلق بالسياسات الداخلية او بعوامل القلق الباكستاني من التهديدات الخارجية. 

 فقد تدخلت الولايات المتحدة بصورة سافرة وحاولت فرض الضغوط تلو الضغوط على قادة المعارضة الباكستانية لارغامهم على التخلي عن المسيرة الاحتجاجية الطويلة التي تسعى لتمكين الشعب الباكستاني من استعادة جزء من هويته الوطنية التي سلبها منه النظام الرسمي المصاب بداء الاستماع الى الاملاءات الخارجية وطاعتها ومرض السير وفق برنامجها بحذافيره، وهدفت كذلك لاعادة القضاة الذين عزلهم الديكتاتور السابق مشرف الى مناصبهم وبالتالي اعادة بعض الإستقلالية للسلطة القضائية، وضغطت الولابات المتحدة لجعل هؤلاء القادة المعارضين يوافقون على القبول بسياسات حليف الولايات المتحدة المفضل حاليا الرئيس الحالي لباكستان آصف علي زرداري زوج رئيسة الوزراء الراحلة بينظير بوتو.   

أخفقت الولايات المتحدة في مخططاتها الشائنة واضطرت في نهاية المطاف الى إصدار تصريحات تصالحية وأن ترحب بعودة قاضي القضاة افتخار محمد شودري الى منصبه.. مع ملاحظة أنه من الطائفة السنية وربما كان ذلك هو سبب الرفض الأمريكي له باعتبار الرغبة الكامنة لدى المسؤولين الأمريكان حسب ما أزعم بأن يفضلوا التعامل مع كل هو شيعي نظرا لأنه الاقرب الى القبول بما يملونه عليهم وخصوصا طائفتهم في باكستان.

 إلا ان الغطرسة الامريكية لم تمنع الولايات المتحدة من إرسال رئيس وكالة الاستخبارات المركزية إلى باكستان ليشهد عن كثب ما أحاط بعودة قاضي القضاة لمنصبه من مشاعر فرح جياشة لدى الشعب الباكستاني ممثلا بمحاميه ونشطاء أحزاب المعارضة وفئات المجتمع المدني بل وبعض مؤيدي حزب الشعب الحاكم الذي يرأسه الرئيس زرداري بالمشاركة مع ابنه بيلاول ( بوتو ) زرداري، وهي التسمية التي أطلقها عليه والده لكي يكون قادرا على تولي رئاسة الحزب الذي يفضل أتباعه أن تظل رئاسته في عائلة بوتو.. ويقول الرئيس زرداري أنه يتولى الحكم لفترة تمتد حتى يُنهي فيها ابنه دراسته الجامعية وهو الابن المدلل الذي يدخل الى العاصمة إسلام أباد وهو يتسكع في مشيته بمطارها الدولي ويجتر اللبان في فمه ولا تبدو عليه أي مظاهر وإن ضئيلة من مظاهر تحمل المسؤولية.

الغطرسة والجهل بحقائق الامور هي التي أفشلت مخططات واشنطن للسيطرة على سياسات باكستان الداخلية.. وهذه الامثلة ليست سوى الأخيرة على الإندفاع المريكي الأهوج نحو المشاركة بقوة في التفاعلات الباكستانية الداخلية.

والبريطانيون كذلك لم يتاخروا عن الركب بل عاجل ديفيد ميلباند وزير خارجيتهم  إلى الإمساك بطرف من خيوط السياسة الداخلية الباكستانية شاجبا المسيرة الطويلة الاحتجاجية ومتباكيا من أنها ستنقل باكستان إلى الفوضى لا محالة.

 لماذا هذا " الحرص " غير المبرر على باكستان؟ إنه مجرد ضغوط تبذل لحماية حليف الولايات المتحدة الذي يتربع على قمة الهرم الحاكم في باكستان لأن واشنطن تطمح من خلاله إلى تأمين مصالحها في هذه المنطقة المنكوبة بكثرة وبتشعب وطول أمد لهذه المصالح.

المظاهرة الاحتجاجية الطويلة التي نظمها المحامون وأحزاب المعارضة وفئات المجتمع المدني المختلفة تعتبر دليلا على استعادة الشعب لرغبته في "تقرير مصيره بنفسه".. لماذا الادعاء البريطاني بأن مثل هذه المسيرات السلمية تؤدي الى الفوضى ولماذا اعتراض الرئيس زرداري الآن على المسيرة الطويلة وهي ذاتها من ابتكار زوجته بينظير بوتو في يوليو 1993م عندما قامت بتجميع جميع وسائل النقل الكبيرة والصغيرة في مكان واحد بمدينة لاهور مهددة بأن تنقل فيها المتظاهرين إلى قلب العاصمة إسلام أباد قاطعة ما يربو على 300 كيلومتر من الطرق المتعرجة وغير المعبدة بشكل جيد.. حينها لم يعترض عليها أحد واضطر الجيش وقتها للتدخل ولإرغام الحكومة والمعارضة والرئيس على الاستقالة وعقد انتخابات جديدة.

 أما اليوم فإن الطرق معبدة بشكل جيد والهدف أكثر نُبلا من محاولات بينظير بوتو لإيصال زوجها المسمى برجل العشرة بالمائة إلى ردهات الحكم في باكستان لكي يجمع الأموال ويهربها إلى خارج البلاد.

من خلال هذه المسيرة يحاول الشعب الباكستاني أن يتخلى عن جميع الآليات التي يستخدمها قادته وأربابهم الذين يتولون إدارتهم بخيوط واهية من الخارج والذين تقشعر أبدانهم من مجرد التلكؤ في تنفيذ الاملاءات التي تصلهم ولا يقدرون شعبهم او يكترثون بمصائبه وازماته ومشاكله التي لا تعد ولا تنتهي بل يفاقمونها.

كما يبدو ان الادارة الامريكية قد دخلت في نوبة مرضية مزمنة بسبب معاناتها من قضية الدكتور عبد القدير خان رائد البرنامج النووي الباكستاني.

فهذا مستشار للقيادة المركزية الأمريكية يحذر من أن باكستان قد تنهار في غضون ستة شهور إذا لم تقم واشنطن بإتخاذ الخطوات التي من شأنها معالجة أوضاعها. فقد قام ديفيد كيلكولين الذي يقوم بتقديم الإستشارات للجنرال ديفيد بيتراوس بالقيادة المركزية الأمريكية بشأن الحرب ضد الإرهاب بمطالبة صانعي القرار الأمريكان بأن يركزوا إهتمامهم على باكستان لأن الفشل في ذلك ستكون له عواقب وخيمة على المجموعة الدولية بأسرها. وقال إنه إذا خرجت باكستان من نطاق السيطرة فإن أزمتها ستغطي حينها على جميع الأزمات الدولية، وقال إن أهمية باكستان تبرز من خلال أن " فيها 173 مليون نسمة و100 رأس نووي وجيش أكبر من الجيش الأمريكي وتعتبر المقر الرئيسي للقاعدة ولأنشطتها القوية في ثلثي البلاد غير الخاضع للسيطرة الحكومية ". والمستشار كيلكولن استرالي الأصل ويقدم المشورة للحكومات في جميع أنحاء الدول الغربية حول المسلحين المسلمين. كما أنه وصف الجيش والاستخبارات والشرطة في باكستان بأنهم (مارقون) ولا يتبعون تعليمات الحكومة المدنية وقال أنهم يشكلون (دولة مارقة داخل الدولة). الشرطة هنا اضافة جديدة للمواجهة القائمة منذ ما يزيد عن عام بين الاجهزة الاستخباراتية الباكستانية ووكالة الاستخبارات المركزية الامريكية. ( ويمكن اعتبار ضم الشرطة الى "المعركة" نتيجة لرفض بعض قيادات الشرطة مهاجمة المتظاهرين في المسيرة الطويلة التي سارت ضد حكومة الرئيس زرداري لارغامها على اعادة الاستقلالية للسلطة القضائية في باكستان ). وقال كيلكولين  " إن إنهيار باكستان وبالتالي حصول القاعدة على الأسلحة النووية وتولي المتطرفين لزمام الحكم في باكستان، كل هذا من شأنه أن يُقزم جميع الأزمات الدولية ويبرز أزمة باكستان كعملاق ضخم بينها ".

ومرة أخرى نستمع إلى النشيد الامريكي المعتاد وهو ربط الدعم لباكستان بتمكين المحققين الامريكان من الوصول الى الدكتور خان وزادت عليه في هذه المرة التهديد بوقف المساعادات العسكرية. ولكن ما يخفق في فهمه صانعوا القرار الامريكي هو انه حتى اكثر القادة الباكستانيين طاعة للإملاءات الأمريكية لا يستطيع ان يغامر ويسمح للمحققين التابعين لهم بالوصول الى د. خان. كما انه لا يمكن ملاحقة باكستان قانونيا في أي تصرف قام به رائد برنامجها النووي لانها ليست من بين الدول الموقعة على معاهدة خظر الانتشار النووي وليست عضوا في مجموعة المزودين بالمواد النووية. ولكن التهديد بوقف الدعم العسكري يوضح للقادة العسكريين الباكستانيين مدى خطورة الاعتماد على الولايات المتحدة كمصدر للدعم العسكري او لتقنياته وانها تستطيع ان تكون افضل حالا بدونه كعهدها في العقود الطويلة الماضية.

ان هناك محاولات امريكية لا تهدأ لتدمير اهم المؤسسات القوية التي لا تزال متماسكة في باكستان وفي مقدمتها الجيش وجهاز الاستخبارات  العسكرية ( الآي اس آي ) بل ضمت لهما الان جهازي الشرطة والاستخبارات المدنية لتخربها ( على الرغم مما في بعضها من الفساد ) تماما كما فعلت باجهزة الدولة في العراق وهي تستخدم في الحالتين ايادي وادوات محلية لتحقيق ما تريده. ان ما تريده الولايات المتحدة لباكستان في المرحلة الراهنة هو القضاء على هذه الاجهزة واخراج العناصر والقيادات الفاعلة فيها والعاملة لمصلحة باكستان العليا وان تعمل بالتالي على احلال عناصر موالية لها فيها او ان تضع فيها من تسميهم اجمالا "بالعلمانيين".

كما ان جلوس الولايات المتحدة في مقعد قيادة سياسة باكستان الخارجية بفضل ولاء القادة المحليين لها وعدم قيام الجيش باي شيئ لحماية مواطنيه القبليين من الهجمات المهينة التي تشنها طائرات امريكية بدون طيار بشكل يومي تقريبا على المواطنين العزل، كل هذا يشكل تهديدا خارجيا للامن الباكستاني وهو نابع من جهل امريكي بما يمكم ان تؤدي اليه سياساتها من اضرار في هذه المنطقة.