الاتفاق الحقيقي الوحيد في دوما
23 رجب 1439
أمير سعيد

استؤنف القصف، وارتقى أكثر من مائة شهيد في دوما، وأصيب أكثر من ألف، جراء استهداف الأبرياء من الأسر السورية في الملاجئ بغاز السارين، من قبل قوات مجرمي الحرب من الروس والنظام السوري.

 

 

لن يضاف جديد حين يقال إن ما ينفذ من جرائم يتم بإرادة أممية، يتشارك فيها المسؤولية من يسمون بأصدقاء سوريا وأعدائها، بدرجات متفاوتة، فمزيد من هذا الكلام هو محض سفسطة وهراء لن يغير من واقع السوريين المر شيئاً، ولن يساهم في دفع الضر عنهم.

 

 

غير أن ما ينبغي أن يلتفت إليه، ونحن نبتهل إلى الله أن ينصر أهلنا الضعفاء هناك، وحيث يحاول البعض التخفيف قدر الإمكان من أثر ونتائج الجريمة بالسعي نحو تصديرها في وسائل التواصل ووسائل الإعلام بغية تشكيل رأي عام عالمي ضدها، وإذ يبذل البعض جهده لتحريك الجامد... هو أن نعيد القضية إلى مفرداتها الأساسية، ونعود مع الزمن إلى الوراء بحثاً عن أصل الحكاية ومحورها.

 

 

أساس هذه البلوى، حين تقاسم الفرنسيون والبريطانيون بلاد سورية الكبرى قبل أكثر من مائة عام، وحين هزمت فرنسا جيش المتطوعين السوريين بقيادة يوسف العظمة، واحتلالها حاضرة الإسلام، دمشق، بذر جنرالها هنري غورو أساس دولة الطائفية الخبيث؛ فأنشأ دولة العلويين في العام 1920، والتي استمرت حتى العام 1936، ثم عاودت من بعد دعمها والغرب والكيان الصهيوني، الانقلاب العلوي على الرئاسة السورية بقيادة حافظ الأسد 1970 لتشمل حكم سوريا كلها.. ظل حكم الأقليات غير المسلمة منفذاً مهماً لـ"الاستعمار" لتغيير هوية بلاد الإسلام وتدجين شعوبها، وحين استقر له الأمر في بعض البلدان كسوريا، أصبح التمسك به إرادة دولية مشتركة لا محيص أو تنازل عنها.

 

 

أصل القضية أن العالم لا يريد أن يرى حاكماً لسوريا لا يتبع للطائفة العلوية (النصيرية)، ويريد أن يفرض عليها حكماً طائفياً عسكرياً مستبداً يحكمها بالحديد والنار، ويضمن عدم اضطلاع سوريا بدورها التاريخي الحضاري الذي قامت به على مر العصور مذ حكمها الأمويون وصارت ثغراً للإسلام والمسلمين. فجوهر المسألة هي أن النظم الدولية التي تحكم فعلياً ديار الإسلام لا تريد أن تعود عن "مكتسباتها"، تلك التي أعلنها غورو وهو يطأ قبر صلاح الدين في دمشق قبل مائة عام هاتفاً: "ها قد عدنا يا صلاح الدين".

 

 

اتفق الغرب والشرق على ألا يذوق السوريون طعم الحرية أبداً، وألا يتزحزح عنها حكم الطائفيين الذين يرفعون شعار "الأسد أو نحرق البلد"، أو أي حاكم أخرى يلبي ما يلبيه هذا "الحيوان"، على حد وصف الرئيس الأمريكي، وأن تحطم "الأسرة الدولية" حلم التحرر أن يتولد في أذهان السوريين خاصة والمسلمين عامة.

 

 

هذا هو الأصل، وفي التفاصيل تأتي الأدوات المعتادة التي نفذها "الاستعمار القديم" في السابق للحؤول دون قيامة هذه الأمة من رقدتها، من دس الخونة، وإصدار القرارات الأممية بمنع السلاح عن المقهورين، وإخراس أصوات المعذبين، وزرع جواسيس غرف الموكا وغير الموكا في معاقل الأحرار لإضعافها وحرفها عن أهدافها الحقيقية، تقييد يد المجني عليه وإطلاق يد الجاني والسماح له باستقدام من شاء من المرتزقة أولاً ثم الأسياد ثانية، وكل أنواع السلاح، وتحليل كل سلاح محرم إن استخدم في قتل روح الحرية والاستقلال واسترداد الهوية والدين والقيم.. إلخ

 

 

الاتفاق هو أن يظل مجرمو الحرب والإنسانية جاثمين على صدور السوريين الأحرار، وإن تدمرت كل حواضر سوريا، وهُجّر نصف أهلها، واستشهد مئات الآلاف وجرح أضعاف أضعافهم، وفي الطريق لا بأس بأن ينعت الرئيس الأمريكي ترامب، بشار الأسد بالحيوان، أو يدين الاتحاد الأوروبي جرائمه، أو يجتمع مجلس الأمن أو يعرب الأمين العام للأمم المتحدة عن قلقه، ما دام كل ذلك لا يؤثر على الوضع الميداني شيئاً، فلا يمنع تهجير أهل دوما ولا يحول دون التغيير الديموغرافي للغوطة الشرقية كما الغربية، وما دام لا يعرقل عملية تعويم بشار الأسد وإعادته لكرسي الجامعة العربية وإلحاقه مرة أخرى بـ"الأسرة الدولية"، وما دام لا يحول دون محو جميع جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي اقترفها نظامه بممحاة "الخطوط الحمراء" التي لم يتجاوزها بشار، على حد تصريح الرئيس الفرنسي ماكرون بعد جريمة دوما الكيماوية الشنعاء.

 

 

الاتفاق سارٍ، يؤكده ماكرون، ويدعمه ترامب، وينفذه بوتين، ويشهد عليه نظام دولي مجرم، يزداد تغولاً واستحلالاً لدماء المسلمين، في واحد من أسوأ عصور التدني الحضاري التي مرت على العالم منذ 14 قرناً لم ينفرد فيها المجرمون بفرض شريعة الغاب الظالمة تلك أبداً مثلما هو الآن، ولم تنحدر فيها الأخلاق السياسية لهذا الدرك المشين، المنذر بقاصمة عالمية أو انبعاث حضاري جديد.