حول طرد الدبلوماسيين الروس واستنتاجاته
12 رجب 1439
أمير سعيد

"الصباح رباح"، كان تعليق الناطق الرسمي باسم الرئاسة الروسية اللافت للنظر على عدم تهنئة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على فوز نظيره الروسي فلاديمير بوتين في الانتخابات الرئاسية لفترة رئاسة رابعة، قال الناطق حينها "لا داعي لتضخيم الموضوع. في نهاية الأمر، الصباح رباح".

أتى الصباح، ومعه تهنئة من الرئيس الأمريكي لبوتين على فوزه بانتخابات غير نزيهة، وأخرى من رئيس مفوضية الاتحاد الأوروبي جان كلود يونكر حيث بعث برسالة تهنئة لبوتين متعهداً بأن "يكون شريكاً دائماً في تحسين التعاون الأمني مع الكرملين".

 

لكن صباحاً تالياً جاء مغايراً، مع أكبر عملية طرد لدبلوماسيين روس من دول "المهنئين"، شملت نحو 100 دبلوماسي روسي في اليوم الأول من التصعيد الغربي مع موسكو، إذ طردت وأزمعت 20 دولة أوروبية علاوة على الولايات المتحدة وكندا وأستراليا على طرد دبلوماسيين روس على خلفية اتهام أجهزة الاستخبارات الروسية بتسميم العميل الروسي سيرجي سكريبال.

 

التصعيد أوسع مما كان متوقعاً؛ فقد شمل عدداً كبيراً من دول الغرب والشرق أيضاً، وشمل عدداً كبيراً أيضاً من رجال الاستخبارات الروسية العاملين تحت غطاء دبلوماسي، إلا أنه كان "منضبطاً" إلى حد بعيد، ولم يجاوز حدوداً تنقله من حيز الأزمة إلى حالة صراع، مراعاة لمصالح متعددة بين الغرب وروسيا، وهذا بدوره يلفتنا إلى عدد من الملاحظات حول الأزمة الحالية، والاستنتاجات التي يمكن أن نخلص إليها في اليوم الأول من هذا التصعيد المدروس:

 

أولاً: أن التنسيق عالٍ بين الولايات المتحدة والدول الغربية إلى حد تبعية كثير من تلك الدول لها في غرب أوروبا، ما جعل التصعيد يصدر بقيادة أمريكية وبتزامن لافت يشي بأن الولايات المتحدة لم تزل تمسك جيداً بلجام الاتحاد الأوروبي ودوله الحليفة.

 

ثانياً: أن الولايات المتحدة أرادت إبراز نفوذها الكبير في دول البلطيق والدول المجاورة لروسيا في شرق أوروبا كلاتفيا ولتوانيا وأستونيا وأوكرانيا والتشيك ورومانيا، وسدد رمية لروسيا عبر تأكيد "اختراقها" للمجال الحيوي لروسيا في شرق أوروبا؛ فكانت هذه الدول في طليعة الطاردين للدبلوماسيين الروس.

 

ثالثاً: لوحظ أن منصب السفير، رفيع المستوى، لم يمس، كذا غير المصنفين أمنياً بأنهم ضمن جهاز الاستخبارات الروسي، ممن يستظلون بالحصانة الدبلوماسية، ليحد "الضربة" ضمن إطار محدد لا يمس العمل الدبلوماسي (النظيف) نفسه، وكذا ليرسم للروس رسالة قاسية عن انكشاف قطاع كبير من جواسيس السفارات والقنصليات لاسيما في مدينة سياتل الأمريكية التي أغلقت فيها القنصلية – ربما – بسبب إطلالتها على قاعدة عسكرية أمريكية.

 

رابعاً: رغم أن أوروبا وقفت عاجزة إلى حد كبير عن الرد وحدها على الروس، باستثناء بريطانيا بالطبع، إلا أن قوة الضربة الغربية والشرقية لروسيا برهنت على نجاعة العمل السياسي البريطاني، واستمرار "الامبراطورية الآفلة" في لعب دور أوروبي محوري رغم مغادرتها للاتحاد الأوروبي، كما برهن على قدرتها في التحرك في فضاء دول أوروبية لا تحول عضوية الاتحاد الأوروبي. وهو تكتيك يحسب للانجليز دهاة الدبلوماسية العالمية.

 

خامساً: كشف التصعيد الدولي ضد روسيا عن أن إطلاق يد الروس في سوريا، ويد الإيرانيين أيضاً في كثير من بلدان "الشرق الأوسط" لا يعود إلى عجز دولي كما يشاع، بل تواطؤ واضح يعزى إلى تشارك الغرب مع الروس في خطة تدمير سوريا وتهجير أهلها والإبقاء على الحكم الفاشي فيها، ولا يعود إلى عدم تمكن دول العالم من تسديد رميات تحمل معنى "الحصار الدولي" رداً على أي تهديد يمس "الكبرياء الغربي".

 

سادساً: استكمالاً لما سبق؛ فإن مجرد اشتباه في ارتكاب جريمة تسميم لشخصين اثنين لما يفارقا الحياة بعد قد استوجب توجيه صفعة مؤلمة للدبلوماسية الروسية ولاقتصادها بالتبعية، في مقابل جرائم مثبتة بكل أدوات الاستدلال في سوريا على استخدام أسلحة محرمة وغير محرمة، كيماوية وتقليدية، في قتل مئات الآلاف من السوريين، لم ترقَ في أي تصريح أو موقف أوروبي وأمريكي إلى اليقين في إثبات وقوعها من نظامي بوتين وبشار. هذا الاستنتاج يبرهن على أكثر من معنى بغيض يحكم "ضمير العالم الحر"، وهو أنه لا التفات لأي جريمة تمس مسلمين، وأن لا صوت يُسمع إلا أصوات المحتجين الأقوياء، وأن النظام الدولي لا يقتص إلا للأقوياء، وللحلفاء وحدهم. وهذا يؤكد على أن العالم قد عاد بقوة إلى القانون التاريخي القديم، والمتجدد من خلف "النظام العالمي"، وهو أن العالم لا يحترم إلا الأقوياء، ولا يسمع إلا لأصواتهم، ولا يمنح "عدالته" إلا لهم.

 

وفي هذا السياق الأخير، يجدر الانتباه إلى أن الدول المتحالفة الطاردة للدبلوماسيين الروس هي الأخرى تنحني لمعيار القوة الذي تمتلكه روسيا، وهي لا تود أن تشطح كثيراً في التعبير عن غضبها من استباحة الروس لتوجيه رسائل "عنيفة" في عمق الأراضي الأوروبية الغربية، للحد الذي يستدعي رداً "متهوراً" من الروس؛ فلهذا جاء الفعل الدولي محسوباً، ومحترماً لقدرات الروس على الرد بوسائل أخرى. هذا ما يدعونا نحن كشعوب ضعيفة إلى إدراك المعادلة الحقيقية التي تحكم العالم، والتي تغيب قوانا كثيراً عن التأثير أو حتى التواجد فيها.