في آخر الزمان ستكون لغوطة دمشق مكانة كبيرة في قلوب المسلمين، حيث يلوذ بها المسلمون يومئذ، وقد روى أبو داود عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة إلى جانب مدينة يقال لها دمشق من خير مدائن الشام » وقال الحاكم : صحيح الاسناد ووافقه الذهبي وأقره المنذري، قال الألباني في "فضائل الشام ودمشق": وهو كما قالوا.
أما هي اليوم؛ فتلوذ بالمسلمين من خطر عظيم يحيط بها جواً وبراً، إذ يستمر القصف عليها من الطيران الروسي والسوري مخلفاً حتى كتابة هذه السطور مئات الشهداء والجرحى، وبراً عن طريق ميليشيات بشار الأسد، ويبدو أن مكانتها المستقبلية لا اعتبار لها ضمن المنظومتين الرسميتين الإسلامية والعربية؛ فعملية ذبح الغوطة وإبادة أهلها تمر برضا واضح منهما يعكسه انعدام ردود الأفعال الإسلامية والعربية أو تضاؤلها.
الحرب في الغوطة عالمية من حيث عدد أعداء أهلها؛ فالروس والإيرانيون يهاجمون والميليشيات النصيرية تحاول بشتى الطرق الإفادة من القصف في اقتحامها، والولايات المتحدة تضمن تقييد أيدي المقاتلين السوريين منعاً لهجمات ارتدادية لتخفيف الضغط وتشتيت جهود المهاجمين، والعالم الغربي يقوم بدوره أيضاً من داخل الأمم المتحدة وخارجها بشكل اعتيادي من خلال تحويل المأساة لأزمة إنسانية ليس لها من حل سوى إجلاء المدنيين واستسلام المقاتلين، والدول الإسلامية تشارك هي الأخرى – رسمياً – بصمتها المريب.
الأهداف واضحة من تلك العملية الوحشية، فالعنوان هو أمن الكيان الصهيوني، عبر تمكين النصيريين مجدداً من دمشق، ولكن هذه المرة ليس بتسلط السلطة وحده وإنما أيضاً بتغيير ديموغرافية دمشق وريفها، وهذا لن يتم إلا بإزالة خطر التهديد الذي يمثله وجود مقاتلين سوريين يناهضون نظام بشار الأسد حول دمشق، لاسيما في الغوطة الشرقية، وتهجير عدد كبير من سكان الغوطة البالغ عددهم نحو 400 ألف نسمة بحسب إحصاءات الأمم المتحدة، وإحلال إيرانيين بدلاً منهم، لتكريس الوضع الجديد لدمشق والتي غزتها إيران عسكرياً ومدنياً، واستولت على أحياء كاملة منها، وتأمينه خارجياً.
من حي باب توما، حيث المربع الأمني الخاص بالشيعة الإيرانيين، المسيطرين على كل الطرق المؤدية إلى مقام السيدة رقية والجامع الأموي وحتى الغوطة الشرقية، تمتد الطموحات الإيرانية في توطين إيرانيين في هذه المنطقة، علاوة على مراكز عقارية مهمة وفنادق في وسط العاصمة سهلت حكومة بشار للاستخبارات الإيرانية – تحت غطاء تجار إيرانيين – الاستيلاء على بعضها بعقود شراء، وأخرى بشراء مباشر من سوريين مضطرين لبيع بيوتهم. ويأمل النظام الإيراني في إكمال مخطط التغيير الديموغرافي لمنطقة شرق العاصمة وأحيائها الشرقية بالكامل عبر معركة الغوطة الشرقية التي يتوقع حصولها بعد التمهيد الجوي الروسي والسوري الأخير.
للروس طموحاتهم في إخضاع العاصمة ومحيطها للحليف بشار الأسد، لأسباب استراتيجية تتعلق بالمحور الذي تشكله موسكو في المنطقة ويمتد من إيران وحتى سواحل البحر المتوسط، ولأسباب دينية (أرثوذكسية تحديداً)، ولإيران مشروعها الممتد من طهران إلى بيروت، ولـ"إسرائيل" خططها القائمة على إحاطة "حدودها" بسوار طائفي يتكامل سوريا بعد استيلاء حلفاؤها الإيرانيون واللبنانيون (حزب الله) على الشريط المحاذي لتلك الحدود في لبنان وسوريا، ولفرنسا (دولة الاحتلال السابقة والتاريخية أيضاً لسوريا، والتي مكنت للنصيرية من حكم سوريا) رغبتها في تفريغ القوة الضاربة للسنة بالقرب من العاصمة دمشق من سكانها أو على الأقل تغيير ديمغرافية الغوطة، ولقد عبرت صراحة عن هذا بدعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (المبكرة) إلى "السماح بإجلاء المدنيين" من الغوطة الشرقية!
ويعني تهجير أهل الغوطة، وهزيمة المدافعين عنها – لا قدر الله – فقدان سوريا حريتها كاملة بعد ضياع المنطقة المحررة الحيوية الأخيرة في سوريا، واستسلام السوريون لمصير القهر والاستبداد.
ويعني تفريساً لعاصمة الأمويين بشكل جذري وخطير، وستكون حالئذ هي درة الاحتلال الإيراني لسوريا الذي دفع ثمناً غالياً على أيدي الممانعين لتطييف سوريا وتفريسها، هذه الدرة التي لو صارت لهم – لا قدر الله – ستتوج عملاً شاقاً بدأ تسويقه منذ ست سنوات بقتال ميليشيات إيرانية محدودة باسم الدفاع عن ضريح السيدة زينب، ثم جهروا قبل خمس سنوات على لسان مرجعهم الحائري (مرجع ديني عراقي مقيم في قم الإيرانية) بأن «المعركة الدائرة في سوريا ليست للدفاع عن ضريح السيدة زينب، إنها حرب يخوضها الكفرة ضد الإسلام، ومن ثم ينبغي الدفاع عن الإسلام»، ومن ثم فقد اعتبروها حرباً مقدسة، لكن على النقيض مما قيل تماماً، فقد سمح العالم لعشرات الميليشيات الإيرانية يتقدمها فيلق القدس المعادي للمسلمين السنة باجتياح سوريا، للدفاع عن نظام أجمع الغرب والشرق المعادي للإسلام على أن بقاءه أفضل لهم من سقوطه.
الغوطة الشرقية صمدت طويلاً، وتحملت حصاراً قاسياً، وظلت شوكة في خاصرة الظلم، وصخرة تحطم دونها حتى الآن مشروع التفريس، ومشروع محور طهران/بيروت، وموسكو/طرطوس، وغصة في حلق نظام غاب عنه النصر الكامل رغم كل جبروته وطغيانه، ولهذا فالتكالب عليها كبير، والمكر الذي يستهدفها كُبّارٌ، لكن الأمل لم يزل معقوداً برحمة الله ونصره، والله مثبت أهلها ومعينهم.