فيما بدأت مدارس ومؤسسات تعليمية في الغرب إدخال تجربة الفصل بين الجنسين بعد أن أثبتت نجاحاً في زيادة تركيز واستيعاب الدارسين والدارسين، وحققت معدلات نجاح وتفوق أعلى من مثيلاتها، شرعت السلطات في أكثر من بلد علماني في تجربة الفصل بين الجنسين في المواصلات للحد من مشكلة التحرش بالنساء، وامتدت هذه السياسة إلى أماكن التجمعات العامة.
ويبدو أن النقاش حول هذه السياسة لم يعد شأناً منفرداً تخوضه الحساسيات الليبرالية، والمؤسسات التشريعية، والمجالس البلدية، والسلطات المحلية في هذا البلد أو ذاك، بل صار بالفعل هماً أممياً للحد الذي جعل الأمم المتحدة تدعو بشكل مباشر إلى منع الاختلاط في وسائل المواصلات العامة؛ فقبل شهور اعتبرت الأمم المتحدة أن "حالات التحرش بالنساء ومضايقتهن ولمس أجسادهن، على غير رغبتهن، والسعي لاغتصابهن، وقتلهن، وصلت إلى مستويات وبائية"، معتبرة أن نجاحها في تخصيص حافلات للنساء فقط في المكسيك كان "إنجازاً مهماً لمحاولة حل تلك المشكلة".
آنا جوزميس ممثلة المرأة بالأمم المتحدة في المكسيك، قالت – وفقاً لموقع الأمم المتحدة – إن "خوف النساء والفتيات جعلهن يغيرن طريقة حياتهن، سواء في ميكسيكو سيتي، أو في كثير من مدن العالم، وكان لهذه المخاوف تأثير في قرارات خروجهن ليلاً، كما كان على النساء أن تغير من طريقة ارتدائهن للثياب وأصبحن في حاجة للخروج مع مرافقين". لهذه الدرجة صارت المرأة على ما يبدو متخوفة من "المساواة" و"التحرر" في المكسيك!
بوابة براندنبورغ الشهيرة في برلين ورمز الوحدة الألمانية، كانت شهدت حدثاً فريداً في احتفالات الكريسماس الماضية إذ أعلنت شرطة برلين لأول مرة عشية الاحتفالات عن تخصيصها "منطقة آمنة للنساء"، وأقيمت "خيم" للشرطة والصليب الأحمر لمساعدة النساء اللائي يتعرضن للتحرش والمضايقات من الإبلاغ عن مشكلاتهن، حيث بررت السلطات اتخاذها لهذا القرار بالخشية من تكرار الأحداث التي شهدتها مدينة كولونيا قبل عامين، حين تعرض المئات من النساء من تعرضهن لحالات التحرش الجنسي والسرقة من قبل الرجال. راينر فيندت رئيس نقابات الشرطيين في ألمانيا استنكر هذا التخصيص معتبراً إياه رسالة "هدامة" تبشر بـ"نهاية المساواة وحرية التنقل وحرية التعبير"!
فيندت قد يكون صادقاً في قناعاته تلك، فأصحاب هذه الأفكار التي تربط ما بين التحرر والاختلاط، وحرية التعبير بكسر كل القواعد الأخلاقية، والتي تظن أن المساواة تحقق العدالة، وأن القانون ضامن كامل للأخلاق، لا يتصورون أن عمر هذا الاختلاط في العالم لن يدوم طويلاً، فالتحضر المظنون هذا أثبت أنه غير قادر على الاستمرار في ظل مصادمة الفطرة البشرية التي تفرق حقيقة بين الرجل والمرأة في أمور كثيرة، وبرهن على أن تجاهل الفروق الجوهرية تلك، واستغفال الناس باسم المساواة وضرورة الاختلاط لن يفضي إلا إلى زوال هذه "الحضارة" وتفسخها لعجزها عن مصالحة الفطرة وحفظ الخصوصيات وتكريم المرأة على النحو الحقيقي المتحضر.
يكتشف العالم شيئاً فشيئاً أنه لم يحقق السعادة أو الطمأنينة للمرأة بهذا الاختلاط المنفلت، وأنه بحاجة لمراجعة شاملة لتصوراته عن الحالة المثلى في التعاملات الاجتماعية، والتي تأخذ باعتبارها ضرورة صون المرأة عن عبثية الأشقياء عبر إجراءات جديدة محافظة ومحترِمة للمرأة، حيث لم ينتج الاختلاط في المواصلات وغيرها من التجمعات ما يحافظ على كيان المرأة وخصوصيتها واحترامها لذاتها واحترام الآخرين لها على عكس ما تصورته "الحضارة الغربية" في أوج انطلاقتها وظهورها.
وإذ بات العالم يتقدم شيئاً فشيئاً في مساره نحو هذه المراجعة من دون أـن ينطلق من أساس عقدي أو ديني؛ فإن تأثير الواقع يزيد من وتيرة الضغوط الواقعة عليه للمضي قدماً في هذا الاتجاه وإعادة تفكيره الجمعي حول مسألة كتلك، وهي ستكون بذاتها مدخلاً لمناقشة فكرة الاختلاط ذاتها على أصعدة مختلفة، فالبيانات المتوالية المشينة عن تفشي ظاهرة التحرش في المواصلات والتجمعات العامة في كثير من دول العالم، إلى الحد الذي يتعدى أحياناً إلى الاغتصاب أو القتل قد حدت بمنظمات دولية لا يمكن اتهامها أبداً بـ"التزمت الديني" كالأمم المتحدة إلى تشجيع مبادرات دول كثيرة على منع الاختلاط في المواصلات العامة، وقد استجابت دول لمبادرة أممية بهذا الشأن منها روسيا وايران واليابان والهند ومصر والبرازيل واندونيسيا وتايلاند والفلبين والإمارات العربية المتحدة. ومؤخراً بالمكسيك، وألمانيا التي خصصت سلطاتها عربتين في كل قطار في وسط ألمانيا للنساء، وبررت القرار بكونه قد "جاء لتأكيد الإحساس بالأمان لدى النساء اللائي يسافرن بمفردهن".
"غياب الإحساس بالأمان"، "التحرش والاغتصاب بلغ مستويات وبائية"، "حاجة النساء للمرافقين لدى خروجهن"، "إقدام النساء على تغيير طريقة لبسهن لتجنب التحرش"، "زيادة التحرش أثرت على قرار النساء بالخروج ليلاً"، هذه تعبيرات بتقارير غربية واستنتاجات لم تخرج من رحم المؤسسات الدينية، وإنما في قالب العالم الذي ظن أن نساءه تمتعن بحريتهن وانطلاقتهن بعد مساواتهن بالرجال، قبل أن تتكشف لديه خيالية فكرته عن المرأة وجوهر حريتها الحقيقي.
هذا الشقاء المتنامي اطراداً بتزايد ما يُسمى بالتحرر الاجتماعي يسوق إلى الاعتقاد بأن مصادمة الفطرة لا يمكن أن يحقق الأمان والحرية والخصوصية معاً، فإذا كان العالم جاداً بالفعل في مساعيه لتوفير الراحة والطمأنينة للنساء؛ فإنه مدعو إلى أن يراجع بشكل شامل مفاهيمه عن الحرية والمساواة، ومن ثم مراجعة ما ترتب عليها من سلوكيات ومناهج. إذا كان جاداً فلن يجد سبيلاً لطمأنينة المرأة وأمانها إلا في فطرة الله التي فطر الناس عليها، حيث يعلم الخالق من خلق، ويضع له المنهج الوسطي العادل، فهو سبحانه اللطيف الخبير، من دون هذا سيطول المسير به ولن يصل.