أنت هنا

(ولايحيق المكر السيء إلا بأهله)
17 رمضان 1429
الشيخ أ.د. ناصر بن سليمان العمر

الحمدلله رب العالمين الذي رفع شأن العلماء والمؤمنين (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) وقصم ظهور الظالمين والمعتدين ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون)، وصلى الله وسلم على الهادي البشير والسراج المنير الذي حمى ورثته فروى عن ربه جل وعلا ((من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب))، (( والعلماء هم ورثة الأنبياء فإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولادرهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر)) وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

وبعد: فقد تميزت بلادنا بحمدالله بتماسك وترابط شخصياتها العلمية والشرعية والفقهية منذ نشأتها، ظهرت آثار ذلك على كافة جوانب المجتمع والراعي والرعية لعقود طويلة.

 

غير أن هذا التماسك والترابط تعرض لبعض الاهتزاز مؤخراً، وظهرت بلبلة تثيرها فئة قليلة وشرذمة منبوذة لكنها تترك أثراً صاخباً لا لشيء إلا لأنها تحتكر أغلب وسائل الإعلام المتنوعة وتتحكم بها، ومن البدهيات أن الهدم أسهل من البناء.

 

وتتركز جهود هذه الفئة في الهجوم على مظاهر التدين، والأخلاق الحميدة، والاعتزاز بالإسلام شريعة وتحاكماً وقيماً، وتنوعت أساليبهم وبرامجهم لتغيير هذا البعد العميق والأصيل في هذه الأرض وتاريخها البعيد. وهم بإذن الله واهمون ومخذولون (فاصبر إن وعد الله حق ولايستخفنك الذين لايوقنون)، (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ماينفع الناس فيمكث في الأرض).

 

ومن أبرز برامجهم وخططهم، الهجوم على العلماء ومحاولة إسقاط الرموز الشرعية، ومن ذلك ماحصل قبل مدة من هجوم على فضيلة الشيخ/ عبدالرحمن البراك، ثم على فضيلة الشيخ/ صالح الفوزان، عندما صدعوا بالحق وجهروا به، ولما لم يجد هؤلاء السفهاء من يردعهم ويحد من سفههم استمرأوا ذلك واستمروا عليه.

 

ومن آخر ما حدث في هذا النهج تلك الهجمة المريبة التي أثيرت مؤخراً حول إجابة فضيلة الشيخ/ صالح بن محمد اللحيدان عن ملاك القنوات الفضائية المفسدة لعقيدة الأمة، وعقول أبنائها، وصفاء تاريخها.

ولما لهذه القضية من تبعات وآثار قريبة وبعيدة كان لزاماً أن أقف معها وقفة تميط اللثام عن بعض أبعادها، وتحقق التضامن مع شيخنا وفقه الله وسدَّده.

 

فأولاً أؤكد على أهمية التثبت ودقة النقل التي يفترض بالإعلام الرصين الذي يحترم متابعيه أن يلتزم بها عندما ينقل خبراً أو يناقش قضية، ويفترض بالجمهور أن يسقط ويتجاوز أي إعلام يهدر هذه القيمة ويتلاعب بها التزاماً بقوله سبحانه: ( ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على مافعلتم نادمين).

 

وثانياً:تكون الطامة أكبر إذا مارس هذا الإعلام تحويراً وتحريفاً للحقائق، وتشويهاً للقيمة الاعتبارية للأشخاص بعامة وللعلماء بخاصة، خدمةً لأهداف غربية مفضوحة، ويكون هذا التشويه شنيعاً إذا كان يمس شخصية علمية شرعية تحظى باحترام وقبول المجتمع حكاماً ومحكومين، فما بالك إذا كانت هذه الشخصية رئيس مجلس القضاء الأعلى وبوزن منصبه السيادي الذي يتسنمه، والمساس به يتعدى شخصه إلى المنصب الذي يمثله.

 

وثالثاً: إن إثارة الصخب الإعلامي حول أي موقف علمي شرعي يجهر به علماء المملكة ودعاتها تذكيراً للناس بعظيم حق الله ووجوب التزام أحكامه وشريعته، ماهي إلا سياسة يراد بها صرف الأنظار عن حقيقة القضية وجوهر الفتوى، وتشتيت الأذهان عن مشروعهم التغريبي الفاسد، وهذا بالتحديد هو ماحدث تجاه فتوى الشيخ في هذه القنوات وما تبثه من استخفاف بدين المسلمين وقيمهم وأخلاقهم وأحكام دينهم وتوجيهها نحو شخص الشيخ وتاريخه في القضاء وأسلوبه، والاجتزاء المبتور لفتواه في  مقاضاة ملاك هذه القنوات، وردعهم ومعاقبتهم بما يكف شرهم، وخصوصا أنهم يبثون وبكل إصرار ودعم وتوسع برامج وأفلام ومسلسلات ذات مخاطر وأبعاد تظهر سريعاً وتمتد لأزمنة طويلة، علماً أن الشيخ قد أشار لعظم جرم هؤلاء المفسدين وإلى خطورة صنيعهم الذي قد يصل بهم إلى حد القتل قضاءً إذا اكتملت شروطه وظهرت أركانه القضائية المعروفة عند أهل الشأن. 

فلم يُستعظم ذلك وهو يصدر من رئيس أعلى سلطة قضائية في بلادنا؟

وكيف يستغرب وهذه أجهزة القضاء في أغلب الدول تقبل الترافع ضد أجهزة الإعلام إذا أساءت إلى أخلاق الناس وقيمهم، وخصوصاً في مجتمعاتنا المسلمة، والمملكة العربية السعودية ممن يختص بإعدام مروجي المخدرات درءاً لفسادهم ؟

 أفلا نعلم أن إفساد هؤلاء وضررهم أشد من إفساد مروجي المخدرات فقد انتهك أصحاب القنوات أعظم الضرورات الخمس التي جاءت الشرائع بحمايتها ؟

 ثم ألسنا نعلم أن العديد من هذه القنوات المفسدة ملاكها من أهل هذا البلد، فهم قد أساءوا لوطنهم وشوهوا الصورة الشائعة عن بلاد الحرمين في عيون العالم الإسلامي لسنوات طويلة ؟

 أفليس من مصلحة المملكة أن تظهر البراءة من هذه القنوات وما تبثه عبر موقف قوي كهذا من رئيس أعلى سلطة قضائية؟

ثم إن الدعم الحقيقي لهم يأتي من الدعايات والاتصالات ورسائل الجوال التي يجنونها من هذه البلاد، أفليس من المصلحة أن يتاح للناس أن يقاضونهم حتى تحجب هذه الفرص المالية عنهم فيرتدعوا؟ بل هو تنبيه للناس على خطورة دعمهم، وأنه إعانة لهم على الإثم والعدوان المحرم في الكتاب والسنة (وتعاونوا على البر والتقوى ولاتعاونوا على الإثم والعدوان).

 

وتعجب حين يتاح لوسائل إعلام متعددة أن تنال من شخص رئيس مجلس القضاء الأعلى عند تناوله لإمكانية مقاضاة جهة معينة وبحيثيات محددة، وهو المتخصص في القضاء بل يرأس السلطة القضائية العليا بالبلاد، وخصوصاً أنه ثبت للجميع عمالة بعض هؤلاء للغرب وسفاراته، ونكرانهم لنهج بلادهم وخيرها، ويتأكد ذلك يوماً بعد آخر.

 

كيف يعقل أن يحدث هذا! ونحن هنا لانتحدث عن اجتهادات فردية أو شبابية متعجلة، ولا عن مقولة عابرة وغير مقصودة لذاتها، بل نحن نتحدث عن إجابة واضحة وصريحة، تم تسجيلها قبل بثها بأربعة أشهر، وتم الاتفاق على بثها مع بداية الشهر الفضيل نصحاً للناس ولأصحاب القنوات، كما أوضح الشيخ في مقابلته التوضيحية ؟

 

ومن ثم لماذا تبدأ الإثارة من وسيلة إعلامية منبوذة  لاتحترم أدنى معايير الإعلام المرعية؟ ثم يتسابق الآخرون للنقل عنها دون تحقق أو روية؟

 

وكيف يسمح لهذه الفئة الشاذة أن تنال من عموم الناس ناهيك عن الرموز وبهذا المستوى حتى نالت من شخص رئيس مجلس القضاء الأعلى وأقدم عضو بقي في هيئة كبار العلماء.

 

وهنا لابد من القول أن أهم سبب في تقديري لهذه القضية وإثارتها بهذا الحجم العالمي، هو التاريخ الحافل والطويل للشيخ/ صالح اللحيدان – حفظه الله – وأثره في مسيرة القضاء بالمملكة، مع صرامة الشيخ المعروفة إزاء كثير من الضغوطات التي تعرض لها القضاء في البلاد، ومن المعلوم بأن مما تتميز به المملكة العربية السعودية القضاء الشرعي الذي يطبق فيها، وإن رمز هذا القضاء هو الشيخ/ صالح اللحيدان – حفظه الله –  وقد كان سداً منيعاً صلباً  ضد كثير من المحاولات القديمة والحديثة التي جرت وتجري لتغيير مسيرة القضاء في المملكة، والهجوم المتكرر على القضاء والقضاة تحقيقاً لمآرب لاتخفى.

 

وفضيلة الشيخ/ صالح اللحيدان – وفقه الله – له تاريخ معروف مشهود في خدمة دينه وبلده، وقد عرف بتفاعله الإيجابي مع كثير من قضايا المجتمع ومستجداته، ومسيرته العلمية والدعوية يضاهي عمرها نصف قرن، وهو بقية جيل العلماء الرواد الذين تواصت الأمة بتقديرهم والاعتراف بفضلهم.

 

وقبل أن أنهي هذه الأسطر أشير إلى أن هناك ممن كتب عن فتوى الشيخ حاول أن يحرف الكلم عن مواضعه، ويفسره بما يخدم غرضاً في نفسه، وذلك بأن زعم أن هذه الفتوى تخدم فئة عرفت بخطأ مسلكها وانحراف منهجها وغلوها، وهذه الدعوى مردودة على صاحبها من وجوه كثيرة:

منها: أن كلام الشيخ واضح ومحدد ضمن الأطر القضائية والأساليب الشرعية المرعية وليس من حق الأفراد الافتئات على الدولة في الحكم والقضاء .

 

ومنها : أن تلك الفئة لو أخذت بفتاوى العلماء المعتبرين لما وقعت فيما وقعت فيه ولما آل مصيرها لما آلت إليه، ردهم الله إلى الحق رداً جميلاً.

 

ومنها: أن غالب شبابنا والحمدلله من العقل والحكمة والتروي والرجوع إلى علمائهم فيما هو أقل من ذلك فكيف إذا كان الأمر يتعلق بالدماء والأنفس، وقد أفادتهم الأحداث مزيداً من النضج والتبصر.

 

ومنها: أن الشيخ قال حقاً فمن وظفه في باطل لم تكن له في الحق حجة، كمن يستدل بآيات من القرآن في غير مواضعها، أو يزعم أن آيات وأحاديث الحدود تثير فتنة وتسبب قتلاً دون ضابط.

وأذكِّر من زعم ذلك واتهم الشيخ بدعم أولئك بقول الله تعالى ( والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً)، وبقول النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو يعد خصال المنافقين: (( وإذا خاصم فجر))، فليتقوا الله وليتوبوا إليه قبل فوات الأوان.

وختاماً، علينا أن نحذر من خذلان العلماء،  فالمسلم أخو المسلم لايظلمه ولايخذله ولايسلمه، ولننتبه حتى لانقع ضحية لتلبيسات هؤلاء الأفاكين، أو لسقطات بعض المحسوبين على العلم وتصريحاتهم المتعجلة البعيدة عن التثبت والروية.

 

كما علينا جميعاً أن نعلن تأييدنا لموقف الشيخ وفقه الله وأعانه، ودعمنا لجهره بالحق وصدعه به وصبره وثباته عليه ولنحافظ على وحدتنا الشرعية والأخلاقية والاجتماعية التي يريد هؤلاء أن يخترقوها ويحرفوها عن مسيرتها الطويلة، خيب الله آمالهم ورد كيدهم في نحورهم، وحمى بلادنا وبلاد المسلمين من شرورهم.

 

والله أسأل  أن يوفق ولاة الأمر لما فيه خير الإسلام والمسلمين وأن يجعلهم يداً واحدة مع العلماء والصادقين في وجه كل مفسدٍ ومخرِّب ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون).