أنت هنا

حتى بعد رحيل مشرف.. باكستان و قبضة واشنطن
25 شعبان 1429

إذا استثنينا الولايات المتحدة الأمريكية فإن رحيل الدكتاتور برويز مشرف عن هرم السلطة في باكستان المسلمة لم يجد سوى الترحيب والارتياح، فهو مكروه جداً في الساحة الداخلية بحكم قفزه إلى موقع القيادة عبر انقلاب عسكري، ثم انتهاجه سياسة قمعية متعسفة لسائر القوى الباكستانية ولا سيما التيارات الإسلامية ذات اللون الغالب في البلاد.

كما أثار الجنرال المتسلط مقت مواطنيه أكثر فأكثر تبعاً لدرجة انخراطه في المشروع الأمريكي الهدام والذي يلقى بغضاء رهيبة في البلدان الإسلامية بعامة وفي باكستان بخاصة.فواشنطن المناهضة بشدة لآمال وحقوق المسلمين كافة، باتت أكثر استفزازاً لمسلمي القارة الهندية عقب غزوها الأثيم لأفغانستان وتأييدها الانقلابي لأطماع الهند على حساب باكستان التي ظلت حليفاً وفياً للأمريكان في حقبة الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والشيوعي، فكان جزاؤها جزاء سنمار-كما تقول العرب-.كما أن النخبة المثقفة قد ساءها تفريط مشرف بثوابت البلاد الوطنية وبمصالحها الاستراتيجية.

وحتى قشرة التصدي لعداون نيودلهي التي استهل بها مشرف انقلابه لم تنفعه إلا على المدى القصير، فسرعان ما انقشعت تلك الهالة الزائفة، التي لطالما تكررت في فترات تاريخية شتى وفي بلدان مسلمة عدة، حيث يجري تلميع العميل للغرب باصطناع بطولات وهمية له للضحك على البسطاء (منذ أتاتورك ومروراً ببورقيبة وعبد الناصر.....).
فقد شهدت سنواته التسع العجاف أسوأ سياسة باكستانية إزاء الهند واستعلائها وتوسعها، وبالذات تجاه كبرى القضايا المحلية التي تؤرق المسلمين هناك وتضغط على ضمائرهم منذ استيلاء نيودلهي على شطر من كشمير الأسيرة وتغاضي ما يسمى المجتمع الدولي عن عدوانها الصريح، وهو تعامٍ بلغ حد تجاهل قرارات واضحة لهيئة الأمم المتحدة تمنح شعب كشمير-نظرياً بالطبع-حق تقرير المصير.
وسواء أكان تحالف خصوم مشرف في بلاده هو من أطاحه من منصبه أم مبادرة "العم سام" لإقصائه كخطوة استباقية بعد إدراك البيت الأبيض أن سقوط وكيلها الصغير أصبح مسألة وقت لا أكثر، فإن ما جرى بعد اضطراره إلى الاستقالة راغماً مدحوراً، يشير إلى أن إسلام أباد ما زالت في قبضة السياسة الأمريكية، وذلك من خلال أداتها المفضلة:حزب الشعب الذي يديره آصف زرداري (زوج رئيسته السابقة بينظير بوتو)، وهو تحالف راسخ وقديم، لكنه كان مستتراً في الفترات السابقة لأسباب محلية وبتأثير الانتماء الباطني لمؤسسه ذو الفقار علي بوتو وأفراد عائلته الذين ورثوا زعامته وفقاً لتقاليد إقطاعية متخلفة تتناقض مع شعاراته الزائفة ذات الزي الحداثي المستعار.
وها هو نواز شريف-رئيس حزب الرابطة الإسلامية-يكتشف سريعاً خيانة زرداري لأحلام الشعب التي اتفق الجانبان على التزامها من قبل، فلما حان موسم القطاف ورحل الديكتاتور مشرف، كشّر حزب بوتو عن أنيابه وراح يتملص من عهوده ومواثيقه، وأولها إعادة قضاة المحكمة العليا الذين عزلهم مشرف عنوة وهو عزل أسهم إلى حد بعيد في مضاعفة النقمة الشعبية ضده ثم في إكراهه على الخروج من سدة السلطة التي اغتصبها بالقوة.
كما تراجع حزب زرداري عن تعهده السابق بتعديل الدستور لتقليص الصلاحيات الواسعة التي يتمتع بها رئيس الجمهورية والتي فرضها المستبد المخلوع في ذروة استبداده بباكستان المغلوبة على أمرها.
إن على القوى المخلصة في باكستان أن تتعاون بجد وإخلاص لاستثمار هذه الفرصة التي أتاحها التخلص من سلطة الأمر الواقع، لكي تضع حداً نهائياً لتلاعب الولايات المتحدة الأمريكية بمصير هذا البلد المسلم العزيز، كما ينبغي للمؤسسة العسكرية أن تُقْصي من صفوفها كبار الضباط الطامعين بتكرار تجارب الانقلابات الأليمة التي أوهنت باكستان لحساب عدوها الاستراتيجي :الهند، لأن عسكرة السياسة –كما برهنت التجارب التاريخية-تفسد السياسة والعسكرية معاً.أما الاستسلام لألاعيب حزب الشعب وبخاصة بعد افتضاح هويته الحقيقية العميلة حضارياً وسياسياً لمشروع التغريب القسري، وإضعاف باكستان أمام الهند في المقام الأول، فإنه يعيد البلاد إلى دوامة عدم الاستقرار والتقهقر في شتى المجالات بالرغم من القدرات الهائلة لباكستان وشعبها المسلم الذكي.