
عجبا ترينا تلك الحياة , وعجبا تبين لنا مواقع الأقدار , يرفع الله أناسا ويضع آخرين , ويعز قوما ويذل غيرهم دائرة غريبة للمتابع لها , ومدرجة مزلة للصاعد فيها , ومنزلق يستدرج اللاهثين نحو الممالك والسلطان ويجتذب الحائمين حول الكراسي والصولجان ..
حتى إذا هتف هاتف القدر , نزع اللون الزاهي , ورفع الزخرف الجذاب , ولم يبق سوى الحقيقة الواحدة التي رفعها كتاب الله العزيز ( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء , وتعز من تشاء , وتذل من تشاء , بيدك الخير , إنك على كل شىء قدير )
فاليوم يزول سلطان برويز مشرف ويعلن استقالته, ويحكم بالإعدام على حسين حبري , ويسجن محمد ولد الشيخ في قبو بقصره الموريتاني , ويتهدد كرسي آخر بمحاكمات , وتدور الدائرة بسابق وتنتهي أيامه بين أيدي أعدائه , وتعانق مخيلة السفاح الصربي كراديتش حبل الإعدام , ويختبئ ساكاشفيلي تحت كرسي مكتبه خوفا من الموت
إن كثيرا من هؤلاء وغيرهم أذهلتهم أيامهم عن حقوق رعاياهم , واستساغوا صوت صراخ الألم من حناجر أبناء أوطانهم , واستصغروا قدر معاناة بلدانهم , وسبحوا في لجة استرضاء عدوهم على حساب الحق والعدل والحرية والديانة , حتى مقتتهم شعوبهم , وأحاطتهم اللعنات في كل سبيل , وصارت لحظة رحيلهم من أسعد اللحظات على بني أوطانهم ..
فلا غرو أن نرى اليوم البسمات على شفاه أهالي الراحلين في مجزرة المسجد الأحمر في باكستان , ولا أن نسمع الأفراح تقام في بلوشستان ..
إنها أيام زائلات راحلات , وعما قليل لن يبقى لصاحب السلطان فيها سلطان, ولا لصاحب الملك ملك, وإنما الحساب عندئذ بما أعطى وقدم , وبما أصلح وأنجز , وبما أمر فعدل , وقال فصدق , وحكم فرحم , واسترعي فرعى .
كما أن العقاب عندئذ بما كذب وغدر , وأفسد وأهمل , وأمر فطغى , وحكم فظلم , واسترعى فخان .
إنها أمانة غالبة , وقسمة قدرية محكمة , يعطي الله فيها من يشاء من الخير والملك لبعض عبادة , فيأمرهم ليصلحوا في الأرض ويقيموا حدود الله ويرفعوا لواء شرعته , ويعدلوا بين الرعية بالحق والسوية , ويرفعوا قدر العلم ويكرموا أهله , ولا يمالئوا عدوا ولا خائنا , ولا يكنزوا ذهبا ولا فضة , فمن وفى بعهده فله البشرى ومن أهمل وخان فله الخذلان ..