أنت هنا

بعد قرار المحكمة الدستورية التركية.. نكبة العلمنة بأسلحتها!!
28 رجب 1429
قبل عشر سنوات لا أكثر، كان قرار إغلاق حزب سياسي إسلامي في ظل النظام الأتاتوركي الشرس، أيسر من إقفال بقالة تخالف الشروط المتصلة بصحة الناس وسلامتهم وأموالهم!!
فسبحان من يغيّر ولا يتغير..
أما في الوقت الحاضر فقد اضطر صقور العلمانية المستبدة في تركيا، إلى تجرع كأس السم، متمثلاً في رفض طلب المدعي العام منع حزب العدالة والتنمية الحاكم، وحظر النشاط الحزبي على 70 من كبار شخصياته بمن فيهم رئيس الجمهورية عبد الله جل ورئيس الحكومة رجب طيب أردوغان.
وكم كان بائساً ذلك الإخراج المسرحي لقرار المحكمة-وهي مسيّسة 100% وعلاقتها بالقانون والدستور افتراضية صرفة-، إذ توزعت الأدوار فاتخذ ستة من القضاة الأحد عشر موقفاً معارضاً لحظر الحزب المذكور، وأدى الخمسة الآخرون دور المؤيدين لرغبة المدعي العام،  في حين يتطلب المنع موافقة سبعة قضاة عليه!! فما الذي تبدل فأصبح الحظر قراراً صعباً وربما شبه مستحيل؟
ما من شك في أن النتائج الكارثية المتوقعة لنسف حزب العدالة-سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، داخلياً وخارجياً-كانت أبرز العوامل الضاغطة على عرين العلمنة الأخير خارج نطاق المؤسسة العسكرية.فشعبية العدالة الكبيرة والراسخة، وإنجازاته وبخاصة على الصعيد الاقتصادي/الاجتماعي، بالإضافة إلى صعوبة الانقلاب العسكري المباشر، كانت جميعاً عناصر صبّتْ في مصلحة الحزب المحافظ، ذي الخلفية والجذور الإسلامية.
وخارجياً، وبالذات غربياً، نجح دهاة الحزب الحاكم في وضع الغرب في موضع لا يُحْسد عليه، فلم يعد في وسعه ممارسة نفاقه التقليدي بسهولة، حيث دأب على تأييد الديموقراطية في تركيا نظرياً، ومساندة العسكر المنقلبين عليها عملياً!!بل إن الغلو العنصري الذي يصبغ المتعصبين للإرث الأتاتوركي، ولاسيما إزاء الأقلية الكردية في جنوب شرقي البلاد، أصبح عبئاً على أوربا والولايات المتحدة الأمريكية معاً.
وقد أسهم الكشف عن محاولة انقلابية فاشلة ضمّت ضباطاً متقاعدين خططوا لاغتيال رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس الأركان، أسهم هذا الكشف مؤخراً في إرباك صفوف الأتاتوركيين، واضطر قضاة المحكمة الدستورية إلى النأي بأنفسهم عن تلوثه المخزي، كما جعل الجنرالات أكثر خشية من اللجوء التلقائي المألوف إلى رياضتهم المفضلة:قلب الحكومة القائمة وتعطيل الدستور وفرض حالة طوارئ تعيد تنظيم الخريطة السياسية وفقاً لأهوائهم ومصالحهم!!
صحيح أن المحكمة لجأت إلى معاقبة حزب العدالة والتنمية بعقوبة تخفيض مخصصاته المالية التي تقدمها الدولة للأحزاب عادة بنسبة50%، لكن القرار ليس سوى تعبير عن الإحباط والشعور بالعجز عن وأد الحزب والانقلاب عليه بلا عسكر، وكذلك لدغدغة مشاعر الصقور الموتورين، ولكي يقال لهم:حاولنا ولكن الواقع كان أقوى مما نرغب وترغبون فيه.
وربما يراهن القضاة المؤدلجون على أن العقوبة الهامشية سوف تخيف أردوغان وتمنعه من مواصلة مسيرته الإصلاحية التي تثير ذعر العلمانيين لأنها ترفع من مستوى المشاركة الشعبية الفعلية، وتقلّص من هيمنة الجيش والقضاء المسيّس على الحراك السياسي والاجتماعي!!ومما يشجع تلك الأحلام المريضة، تصريحات أردوغان الأخيرة، التي تحدث فيها عن وقوع حزبه في أخطاء لم يحددها بالاسم، وإشارته إلى مراجعة سوف يجريها الحزب في مجمل سياساته السابقة.
بيد أن كثيراً من المراقبين يرون أن الغزل الذي أبداه أردوغان تجاه خصومه لا يعدو كونه تكتيكاً آنياً ذكياً في توقيته، وهم يتوقعون أن الرجل الداهية لن يفوّت الفرصة الذهبية التي يتيحها فشل أعدائه في قطع مسيرته الظافرة، لكنه سوف يبدّل سلّم أولوياته، ليضع في مقدمتها الإصلاحات الدستورية الجذرية لتخليص مستقبل تركيا والأتراك من وصاية حفنة من الجنرالات المهووسين، فالظروف ملائمة جداً داخلياً وإقليمياً ودولياً، وربما لن تتكرر فرصة أخرى كهذه في المدى المنظور.