التقريب والولع بالتنقيب!
18 رجب 1429
لا نـزاع فـي تفاقم التحديات والمخاطر التي تجتال هــذه الأمـة وتعـصـف بها، وتسعى إلى طمس معالم الإسلام والسنة، والطـعن في عقائد أهل السنة وأحكام الشريعة؛ فعداوة الكـفـار وحـربـهـم الشعواء على أهـل الإسـلام مكشوفة، ولا يزيدهم تصرُّم الأيام إلا سُعاراً في الكيد والتنـكـيل بالإسـلام وأهله؛ فالقوم لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة. وأهـل البـدع المغلَّظة - كالروافض وأشباههم - يجاهرون بأهوائهم بلا «تقية» ويعلنون شركهم وزندقتهم بكل صَلَف، ويسومون أهل السنة صنوف الأذى والعذاب؛ كما في بلاد الرافدين وإيران ونحوها.
ومع هذا العداء السافر بخيله ورَجْله، ومع هذا المكر الكُبّار الذي هو ملء السمع والبصر؛ إلا أنّ فئاماً من متسننة هذا العصر قد آثروا السلامة والدَّعَة، واختاروا «الإسلام المريح» الذي لا ينغّص على غرب، ولا يكدّر على مبتدع، فصارت اللغة الطافحة في أدبياتٍ ومجلات وقنوات ونحوها لا تعدو الحديث عن استملاح الإنسانية، والهيام بحوار الأديان، والملاينة مع المبتدعة، و «الاصطلام» بالتقريب بين المذاهب الإسلامية، والولاء الفطري، والتسامح الديني، ونحو ذلك من مشتقات لا تتجاوز دائرة الحبّ والسلام والوئام مع اللئام!
ما أجـمــل مـا حـرره مفـتي الديـار المـصرية الأسبق عبد المجيد سليم - رحمه الله - في هذا الشأن؛ قائلاً: «والناس إنما يفقدون الحماسة للحق والحرارة في الدفاع عنه؛ لواحد من أمرين: إما جهل به يصرفهم عنه، فهم لم يذوقوا حلاوته، ولم يباشروا بشاشته؛ فأنَّى لهم أن يَعْبَؤُوا به فضلاً عن أن يغاروا عليه؟
وإما شُغْلٌ بغيره يملأ القلب، ولا يترك مجالاً للنضال عن الحق والكفاح في سبيله. وأولئك هم الذين يعرفون الحق ويشغلهم عنه ما آثروه من أنفسهم ومصالحهم، فهم يتظاهرون بأنّ تَرْكَهم مناصرة الحق إنما هو لتركهم التعصب، وكراهيتهم التزمُّت والتشدد، والله يعلم أن ذلك منهم نكول ونكوص، وإيثار لعاجل الدنيا على آجل الآخرة.
وأشد ما تصاب به الأمة في علمائها وأهل الرأي فيها هو التحايل بالخروج من تبعات الكتمان بالتأويل والتضليل»[1].
ما أشنع التنصل عن مدافعة هذا الواقع الموجع، والتولي عن ميادين الاحتساب والصدع بالحق ومراغمة الأعداء، وتحقيق البلاغ المبين!
وأشنع من ذلك كله أن لا يُعترف بهذا الخَوَر والجبن، ولا يُشهد بذاك العجز والوهن، بل تجاوزه إلى أن «يكيّف» دين الله وفق معايير الانهزامية والخنوع، و «يخضِّع» هذا الإسلام لأجل أن يكون موائماً لتلك المهانة الجاثمة على فئام من متسننة هذا العصر!
والنكوص على الأعقاب، والهروب من تبعات الدعوة والإصلاح والتغيير؛ لا ينفك عن الأنفس المستكينة التي تُؤْثِر الراحة والتشهِّي، وتتفلت من قيود الصراع. قال أبو الوفاء ابن عقيل: «لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عَدَلُوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم؛ إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم»[2].
والتقريب بين المذاهب الإسلامية - أو بالأحرى التقريب بين أهل السنة والرافضة - هو أنموذج صارخ للغيبوبة عن تشخيص الواقع ومعالجته، والانهماك في حديث معسول، وكلام مستهلك مكرور، لا ينصر ديناً، ولا يُصلِح دنيا.
لقد ارتفعت لافتات التسامح المذهبي، ومحاربة الطائفية والمذهبية، والهَرَع لعقد المؤتمرات والندوات في سبيل تقريب موهوم، يحاكي منتظَر الرافضة وغوث الصوفية! وصرّح بعضهم بأنه: «سُنِّيٌّ في التزامه، شيعي في حبّه، صوفي في روحه ونقائه»!
ودعوة التقريب من مخلَّفات العقود السابقة، ومن الآثار «المطمورة» في متحف التاريخ المعاصر؛ إذ نُقِضت هذه الدعوة شرعاً، وتعثّرت واقعاً وقدراً، فما ذاك التقريب إلا خداع وتضليل، وسراب يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً. فدار التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة - مثلاً - أضحت مقفرة بلاقع - منذ أكثر من ثلاثين سنة - قد سفَّتها الرياح، وسكنتها الأشباح[3].
ولئن اعتذر بعضهم لدعاة التقريب في السابق، لغلبة الجهل بعقائد الرافضة وأصولهم، واستشرافهم إلى الإسلام ووحدة المسلمين، في مقابل المدّ الشيوعي والتغريبي، وضعف الالتزام بالمنهج السلفي آنذاك؛ فماذا يقال عن دعاة التقريب في اللاحق، وقد أشرق سبيل أهل السنة على أنحاء المعمورة وانكشف عوار وزندقة هذا المذهب للعامة والدهماء - فضلاً عن غيرهم - واستبان الحقد الدفين والعداء المستطير على أهل السنة عبر مسلسل دامٍ من المجازر والاغتيالات؟! إضافة إلى الفشل المتتابع لمحاولات التقريب البائسة.
فأيّ تقريب مع الذين ينقُضون الأصول، فيطعنون في صحة القرآن الكريم، ويتعبّدون بالشرك الصُّراح وتأليه الأئمة، ويتديّنون بتضليل خيار الأمة من الصحابة - رضوان الله عليهم - ونهش أعراضهم، ويعتقدون أنواعاً من الضلالات والحماقات كالبداء والرجعة والإمامة والطينة؟
وأي تـقريب مـع قـوم مَـرَدوا على النـفاق «والتقـيـة»، فلا يحسنون إلا مظاهرة الكافرين والمستعمرين، ويجعلون سحق أهل السنة وتصفيتهم قُربة وديناً؟
هذا المسخ في عقائد القوم، والانتكاس عن سبيل العقل السليم والفطرة السوية، والتلوّن والتذبذب في التعامل والمواقف؛ إن ذلك أوجبَ الزهدَ في مناقشتهم واليأس من محاورتهم - كما يراه بعض أهل السنة - كما أفصح بذلك الـقاضي أبـو يعلى قـائـلاً: «هـذه الطائفة تقول: (إن أحـداً لا يعرف حقيقة دينه ومعالمه إلا بأن يأخذه من إمامه)؛ ولو كان كذلك لم يحجب عنهم؛ لأن في ذلك تكليفَ ما لا يطاق؛ لأنه كلّفهم الاقتداء والاتِّباع بمَنْ قد أحال بينهم وبينه من غير دليل؛ ولأنه إذا جاز أن يُدَّعى للحسن بن عليّ[4] ولدٌ غائب من بعد أن مات ولم يظهر؛ جاز أن يدّعى للنبي – صلى الله عليه وسلم - ولد غائب، وأن الإمامة فيه، ويمكن أن يُدّعى ذلك في كل زمان لكل من مات ولا عقِب له! وما هم في دعواهم إمامةَ الغائب المعدوم إلا كقول بعض الصبيان حيث يقول:
زعم الزاعم في بلدتنا
جمل في كُوّة البيت دخل
قلـت: لا أعــلـم مـا بـلدتكم
هذه الكوّة؛ فادخل يا جمل
ولو ذهب ذاهب إلى ترك مناظرة الرافضة ومكالمتهم، لكان قد ذهب مذهباً ليس ببعيد، وذلك أن المتناظرَيْن إنّما يتناظران ويردّان إلى أصل قد اتُّفِق عليه. والأصول التي ترجع إليها الأمة فيما اختلفت فيه إنما هو: الكتاب، والسنة، وإجـمـاع الأمـة، وحـجـج العـقول. وهـذه الأصـول الأربـعــة لا يمكن الرجوع إليها على قول الرافضة؛ وذلك أن مذهبهم أنّ الكتاب مغيَّر مبدَّل، وأنه قد ذهب أكثره.. وكذلك لا يجب أن يُرجَع فيما اختلفنا فيه إلى السنّة؛ لأن النَّقَلَة فَسَقَة، الكذب غير مأمون عليهم.. وكذلك الردّ إلى الإجماع ليس فيه حجة؛ لأن الأمة يجوز أن تجتمع على خطأ وضلال، وأنها معصومة بقول الإمام؛ فإذن ليس الحجةَ إلا قول الإمام فقط. وكذلك حجـج العـقول؛ لأن الخلق كلهم قد عمّهم النقص إلا المعصوم؛ فإذن لا يأمن أن يُرَدَّ إلى أمر من الأمور ولشبه يدخل علينا؛ لأن النقص والجهل قد عمّنا فيردُّنا الإمام عن ذلك، فيجب أن نشك في كل ما نعتقده»[5].
وكما قال القاضي ابن العربي: «إن الرافضة انقسمت إلى عشرين فرقة، أعظمهم بأساً من يقول: (إنّ علياً هو الله)، والغرابية يقولون: (إنه رسول الله، لكن جبريل عدل بالرسالة عنه إلى محمد حميةً منه معه).. في كفر بارد لا تسخنه إلا حرارة السيف، فأما دفء المناظرة فلا يؤثر فيه»[6].
وعندما نسوق كلام القاضيين أبي يعلى وابن العربي، وما فيهما من شِدَّة وحِدَّة؛ فذلك إزاء ملاينة فجة للروافض، وسذاجة مُفْرطة أمام المكر الباطني، وتغافل عن الفروق الهائلة في مصادر التلقي وأصول العقائد والأحكام بين الطائفتين .
قال ابن تيمية: «ولا ريب أنه إذا كثُر المحظور احتاج الناس فيه إلى زجرٍ أكثر مما إذا كان قليلاً»[7].
إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وتشخيص واقع الرافضة ديناً ودنيا هو السبيل إلى تحديد الموقف العدل تجاههم والتعامل معهم، وفق قواعد الشرع وضوابط المصالح والمفاسد.
وإن الثبات على المنهج السلفي النبوي، والاعتزاز به، وكذا تبليغ مذهب أهل السنة والجماعة، وإبراز مزاياه وخصائصه، إن ذلك هو السـبيل العملي في مواجهة هذا السراب الخادع، كمـا أن كشف عـوار مصـادر الرافـضة وبـيان تنـاقـضـها، وما تحويه من الإفك المبين والكذب الصريح.. لهو طريق نافذ في الإجهاز على هذا الدين المتهافت المهترئ. ولقد ضربت أقوال شيوخهم رقماً قياسياً في التناقض والاضطراب، حتى اعترف بذلك شيخهم الكاشاني، فقال عن اختلاف طائفته: «تـراهم يخـتـلفـون فـي المسألـة الواحـدة على عشـرين قولاً أو ثلاثين أو أزيد»[8].
وفي المقابل؛ فإن من الوسائل العملية النافعة: التنقيب عن الروايات الصحيحة في خضم هذا الركام الكثيف من الروايات المكذوبة، واستخراجها من كتب الروافض وإظهارها لعلهم يرجعون.
يقول د. ناصر القفاري: «وهذا مسلك ينبغي أن يُدرَس بعناية واهتمام؛ فإن القارئ لكتب الشيعة يتلمّس خيوطاً بيضاء وسط ركام هائل من الضلال، ومن الممكن أن ينسج من هذه الخيوطِ العقيدةَ الحقة للأئمة، ويكون في ذلك تقريب وإنقاذ لمخلِصي الشيعة من الضياع والتيه الذي يعيشونه»[9].
إن التنقيب عن هذه الآثار الصحيحة في كتب القوم أَوْلى وأنفع من التنقيب عن «أحفورة»[10] التقريب المطمورة، التي لم تخلِّف إلا تخديراً لأهل السنة ونفاقاً لمذهب الرافضة.
ومع أن الرافضة «ليس في جميع الطوائف المنتسبين إلى الإسلام مـع بـدعـة وضلالة شرّ منهم، لا أجهل ولا أكذب ولا أظلم ولا أقرب إلى الكفر والفسوق والعصيان، وأبعد عن حقائق الإيمان منهم»[11]؛ إلا أن أهل السنة يعلمون الحق، ويرحمون الخلق، فلقد عاملوا الرافضة بكل عدل وإنصاف، «بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض، وهذا مما يعترفون به، ويقولون: أنتم تنصفوننا ما لا ينصف بعضنا بعضاً»[12].
«وشيوخهم يقرون بألسنتهم يقولون: يا أهل السنة أنتم فيكم فُتوّة، لو قدرنا علكيم لما عاملناكم بما تعاملونا به عند القدرة علينا»[13].
ومن الجوانب المهمة في هذا المقام أن يُعَرَّف بجهود المؤسسات الدعوية والعلماء تجاه الرافضة، وسبل دعوتهم وهدايتهم، فلقد حققت هذه المناشط نفعاً كبيراً وخيراً عميماً، وأن يُعنى بتوسيع هذه البرامج وترجمتها وتقويمها، بحيث تستوي مناطق النفوذ الرافضي وغيرها.
وكــما فـي وصـيـة المصطفى – صلى الله عليه وسلم - لعلي - رضـي الله عـنـه - لــمـا بعثه إلى خيبر: «... وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله - تعالى - فيه؛ فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمُر النَّعم»[14].