أنت هنا

المتوسطية.. العرب حقل تجارب من جديد!!
24 جمادى الأول 1429

النشاط الفرنسي الفاعل هذه الأيام، والهادف إلى جر الدول العربية المطلة على البحر المتوسط إلى اتحاد مفتعل جديد للدول العربية والأوروبية المطلتين على البحر المتوسط ـ وبطبيعة الحال الكيان الصهيوني الغاصب ـ تكون فيه الريادة والقيادة ما بين فرنسا أولاً ثم "إسرائيل" تالياً، يؤشر إلى أن الدول العربية التي تبدي هرولة مذمومة لهذا الاتحاد لم تع دروساً كثيرة ساقها إليها التاريخ الحديث للعلاقات المسماة بالشراكة فيما هي أقرب لـ"الاستعمار" من العلاقة الندية الطبيعية؛ وهي أشبه بتلك الرغبة العارمة التي انتابت بعض الشعوب عندما تقوم دولة احتلالية بإزاحة أخرى من احتلال دولة لتقوم الأولى بنفس الدور مثلما فعلت انجلترا مع فرنسا قبل قرنين ونيف من الزمان حينما مهدت السبيل لاحتلال انجليزي قادم بعد إغراق الأسطول الفرنسي في خليج أبي قير المصري، أو كهذا الترحيب الذي أبدته بعض شعوب شمال إفريقيا بالنازي الألماني عندما كان يقاتل الحلفاء في الشمال الإفريقي العربي، الذي كان حينها ميدان المعركة أولاً ومحط أنظار الغانمين تالياً، والشيء ذاته كان يُرى في وجه الشيخ الحسيني الفلسطيني عندما راهن على الفرس النازي الخاسر في كسب معكرة تحرير فلسطين.
المقلق أن التاريخ ليس وحده الذي يدفع العرب إلى التريث في الارتماء في أحضان الفرنسيين أو حتى الأوروبيين عموماً كبديل متوهم عن التبعية للأمريكيين؛ فالمعطيات الاقتصادية القريبة من خلال مشروع الأورومتوسطية الذي سبق مطامح ساركوزي لم يمنح الجانب العربي من الاستثمارات الأوروبية إلا أقل من 3% من الاستثمارات الخارجية التنموية التي توجهت في معظمها إلى أوروبا الشرقية، وضنت بمثيلاتها أوروبا على العرب.
كما أن كل الشواهد أثبتت قبل أن يذوب المشروع الأورومتوسطي السابق في بحر المطامع الأمريكية للمنطقة، أن العرب لم يستفيدوا من الأوروبيين في تلك المرحلة التي تلت الإعلان عن الأورومتوسطية أوائل تسعينات القرن الماضي وحتى تلاشيه شيئاً لا على المستوى السياسي ولا الاقتصادي، فلا هي حققت قدراً من الاستقلالية عن الولايات المتحدة ولا انتفعت اقتصادياً ولا حتى حركت القضية الفلسطينية قيد أنملة في الطريق الصحيح.
المشروع الأورومتوسطي لم يكن إلا امتداداً "استعمارياً" لمطامع السابقين شابهت المطامع الأمريكية لكنها كانت الأقل فجاجة بالنظر إلى الامكانات العسكرية الأوروبية المتواضعة قياساً إلى تلك الأمريكية، وامتلاك أوراق لعبة التحكم في كثير من الأنظمة العربية، وبالتالي راهنت معظم الأنظمة على التبعية للأمريكيين بدلاً من الأوروبيين الذين لفظت "إسرائيل" تدخلهم في القضية الفلسطينية ورفضت في مدريد أي وجود أوروبي أو أممي في المفاوضات.
ما يقال عن الأورومتوسطية يكاد يطابق المتوسطية الجديدة التي "يبشر" بها ساركوزي هذه الأيام على خلافات بسيطة في الفحوى والمحتوى، تتعلق بأن ساركوزي هو الأقرب إلى المحافظين الجدد الأمريكيين وأصوله اليهودية المعروفة ومطامحه "الاستعمارية" النابوليونية التي لا تتطابق والسياسة الشيراكية وسابقتها الميترانية، وأيضاً في أن المتوسطية هي وعاء ضيق لاستيعاب أحلام الأتراك في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي؛ حيث يضع ساركوزي المتوسطية للأتراك منفذاً وحيداً للعبور إلى الأوروبية، أو لنقل للدقة منفذاً للخروج من الأوروبية، حيث العرق الأوروبي "السامي" يتأبى أن يضم في ناديه مسلمون؛ فأوروبا نادي مسيحي كما قال البابا السابق من قبل، وحرام على تركيا التي تتطابق شروط العضوية الأوروبية فيها بجدراة أن تنتسب إلى "أوروبا الحرة"!!
مفهوم أن يجري ساركوزي جولات مكوكية لاستنزاف العرب في "شراكة" اقتصادية موجهة وصفقات سلاح لا قيمة فعلية لها، ومشروعات نووية سلمية مضبوطة على مؤشر النزيف المالي دون الارتقاء إلى سلم الاستقلال العسكري.. كل هذا مفهوم من رجل يريد لبلاده دوراً إقليمياً على حساب البسطاء لكن من غير المفهوم أن تهرول الضحية إلى القصاب.