أنت هنا

البابا في واشنطن..هل يُصْلح بنديكتوس ما يُفْسده قساوسته؟
14 ربيع الثاني 1429

ربما كان الاهتمام الإعلامي الكبير بزيارة بابا الفاتيكان إلى الولايات المتحدة أمرا غير مفهوم لدى البعض الذين يعتبرون زيارة كبير كاثوليك العالم إلى بلد نصراني تحصيل حاصل.غير أن من يعرف تاريخ الولايات المتحدة وتكوينها الديني والعرقي والعلاقة المعقدة –والمتأرجحة- بين الدولة والكنيسة فيها،ومن يعلم ندرة زيارات البابوات إلى بلاد "العم سام" (الزيارة الحالية هي الثانية من نوعها في تاريخ الفاتيكان)،ومن يدرك طبيعة المآزق التي تمر بها النصرانية بعامة والكاثوليكية بخاصة،يستطيع رسم صورة أكثر تماسكا تفسر الاهتمام الإعلامي والسياسي المبالَغ فيه بزيارة رأس الكاثوليك الحالي لأمريكا.
من هنا يتعين الإلمام بأبرز تلك المعطيات القديمة والحديثة لوضع الحدث في سياقه.
وأول عنصر يجب التوقف عنده،هو شخصية البابا الحالي بندكتوس السادس عشر،المصنف-بمعايير الكنيسة ذاتها-في طليعة صقورها المتشددين،وهي صفة لا نحتاج-نحن المسلمين-إلى شواهد عليها،فالرجل بادر إلى الإساءة والتطاول على الإسلام والمسلمين من خلال تزييف ثوابت وقطعيات تاريخية.
أما العنصر الآخر في المشهد فهو الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن الداعي –بالقول والفعل-إلى تجديد الحملات الصليبية غير المواربة ضدنا،وهو مهووس دينيا بحسب المقاييس الأمريكية الفضفاضة،وإن كان لا يتبع الكاثوليكية،لكن غلوه النصراني جعله يخرق قواعد البروتوكول في استقباله البابا.
ومن مفارقات زعيم"أقوى"دولة في عالمنا المعاصر،أنه أبدى اهتماما بضيفه يكاد يدخل في دائرة الذل،من بلد أصبحت عقلية الطاووس المفتون بقوته شعاره،في حين رد عليه البابا برفض دعوته إلى العشاء في البيت الأبيض،بلا تقديم سبب معقول –وحتى غير معقول-!!
وفي خلفية المشهد،تبرز المكوّنات الموروثة دينياً واجتماعياً،وكذلك المتغيرات الطارئة،لتزيد الصورة تشابكاً وتعقيداً.فنسبة الكاثوليك في الولايات المتحدة لا تتجاوز في الأصل 25%من سكانها،الذين تعتنق أكثريتهم البروتستانتية بتفرعاتها الكثيرة،التي كانت أقوى وأخطر انشقاق نصراني في العصور الحديثة،حيث ينظر كل طرف إلى الآخر على أنه "مارقٌ"،وهي نظرة ترافقت مع حروب دموية ووحشية،أسهمت في جانب منها عن قيام أمريكا الحديثة كملجأ للبروتستانت الفارّين من الاضطهاد الكاثوليكي الأوربي،لكن هؤلاء الهاربين بحثاً عن طمأنينة أقاموا كيانهم على استئصال السكان الأصليين واستعباد ملايين الأفارقة بقوة الحديد والنار.
غير أن الهجرة الكثيفة من أمريكا الجنوبية-اللاتينية-إلى الولايات المتحدة،رفعت نسبة الكاثوليك فيها إلى نحو44%-وفقاً للمصادر الكنسية-،في حين تشير تقارير إعلامية –نشرتها نيويورك تايمز وواشنطن بوست-إلى تراجع النصرانية عموماً هناك،الأمر الذي يوضح أن المعطيات الكنسية المزعومة خادعة،في ظل تغيير كثير من نصارى أمريكا وبالذات كاثوليكها انتماءاتهم الدينية!!ويكفي-كمؤشر-أن عدد القساوسة الكاثوليك في عام 1965م كان 58 ألفاً،وتقلص اليوم إلى 41500!!وأن80%من الأمريكيين و63% من الكاثوليك في أمريكا لا يعرفون شيئاً عن شخصية البابا!!
وبالرغم من صعوبة الجزم فإن المؤكد أن كاثوليك "العم سام" هم الممول الأكبر للفاتيكان في العالم،بتأثير ثرائهم ،وطبيعة الهياج الديني المسيطر على المجتمع والذي تصاعد بقوة في ربع القرن الأخير،وبلغ ذروته في ولايتيْ بوش الابن.
أما العنصر الضاغط بقوة على بندكتوس16فيتمثل في فضائح قساوسته المزرية والمتصاعدة في السنوات الخمس الأخيرة،وهي تتعلق بعدوانهم جنسياً على ألوف الأطفال من "رعيتهم"،الأمر الذي لم تفلح الهيمنة القوية للفاتيكان من طمسه،فاضطر البابا إلى الاعتراف به،والتعبير عن خجله منه عشية زيارته الحالية.وقد بلغ من تفشي الظاهرة المقززة أن الكنيسة-!!!!-دفعت مليارين من الدولارات كتسويات مالية لستر فضائح قساوستها الماجنين،الذين يزعمون أنهم رهبان،فهم يترفعون عن الزواج الذي أحله الله،لكنهم يغوصون في أوحال الشذوذ البغيض.
والخلاصة أن البابا الحالي يسعى إلى احتواء الآثار السلبية الهائلة لتردي قساوسته،وتقهقر أعداد أشياعه،مع أن حقائق التاريخ وتركيبة النفس الإنسانية،تقطعان بأن الفساد الأخلاقي عنصر لصيق برجال الكهنوت وليست أمراً طارئاً:
عجوزٌ ترجّي أن تكون صبيةً وقد لحب الجنبان واحدودب الظَّهْرُ
تدسُّ إلى العطار ميرة أهلها وهل يُصْلِحُ العطار ما أفسد الدّهْرُ
وهذا الرجل الحقود يراهن على انبهار أعداء الأمس البروتستانت بوحدة كنيسته،وبرغبتهم الشديدة في جعل الحقد النصراني ضد المسلمين قاسماً مشتركاً أكبر من مشاحنات الأمس القريب المستمر.