
انتقل الباكستانيون من مرحلة الخوف والخشية من التفجيرات وأحداث العنف وملحقات حرب الولايات المتحدة ضد "الإرهاب" إلى مجال رحب من الأمل الذي انبعث بعد نتائج انتخابية مضادة لسياسات لرئيس مشرف.
وعلى الرغم من أن الأحزاب ذات التوجهات العلمانية قد حصلت على الأغلبية في الانتخابات البرلمانية إلا أن الرئيس لا يزال يرفض أي فكرة للتنحي عن منصبه ويقول إنه سيعمل مع النظام المدني الجديد.
وللمزيد من دعمه فإن وزارة الخارجية الأمريكية أعادت التأكيد على الأهداف السياسية الرئيسية للولايات المتحدة الأمريكية في باكستان والتي ترى أنه لا يمكن تنفيذها بدون بقاء الرئيس مشرف على رأس الحكم في هذا البلد، بل إن بعض المسؤولين الأمريكيين قد أكثروا من تبسيط المسألة من خلال القول أن بلادهم أنفقت حتى الآن ما يقارب 10 مليار دولار من أجل تمكين وتعزيز الرئيس مشرف وهي لا تستطيع التخلي عن هذا الاستثمار الكبير بسهولة.
وفي هذا السياق صرح سين ماكورماك المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الأمريكية " سوف نستمر في العمل مع الرئيس مشرف من أجل تحقيق الأهداف الخاصة بمصالحنا القومية مهما كانت طبيعة الحكومة القادمة في باكستان".
وتحقيقا لهذا الغرض تحولت السفارة الأمريكية في إسلام آباد إلى ملتقى لكبار السياسيين الفائزين من حزب الشعب الباكستاني الذي فقد زعيمته بوتو في ديسمبر الماضي لكي "يحظوا" بلقاء مع السفيرة الاميريكية، وأضاف المتحدث الأمريكي القول من مقر وزارته في واشنطون بأن المصلحة الرئيسية لبلاده هي أن تستمر باكستان في لعب دور رئيس فيما يسمى بالحرب ضد الإرهاب.
ومع هذا التدخل الامريكي السافر في شؤون هذا البلد فإن الأحزاب الفائزة بالانتخابات تجد نفسها في ورطة وأمام خيارات تكاد تكون مرسومة خارجيا؛ فهي تدور في حلقة من الاحتمالات التي تدفعها للعمل على التخلص من حكم غير دستوري وغير مرغوب شعبيا دام عليه تسعة أعوام بقيادة مشرف وبين ضغوط آخرها تطالبها بالإبقاء على هذا الحاكم في منصبه وهو أمر يتعارض أيما معارضة مع رغبات الشعب الباكستاني الذي كانت كلمته واضحة برفض سياسات الرئيس مشرف، كما أن اختلاف التوجهات السياسية لدى الاحزاب الرئيسية الفائزة يزيد من صعوبة مهمتها رغما عن أنها عرضت قوتها البرلمانية الموحدة والمتمثلة في حزب الشعب (الليبرالي) بقيادة زرداري زوج بينظير بوتو وحزب الرابطة الباكستانية الإسلامية (الأقرب للاتجاه الإسلامي ولكن بـ"اعتدال سياسي كبير") بقيادة نواز شريف وحزب عوامي القومي الوطني ذي التوجه العرقي البشتوني المماثل في عرقيته لمكونات حركة طالبان والذي أفلح بالفوز بمقاعد الأغلبية في إقليم باكستان الحدودي وبعدد من المقاعد في البرلمان الوطني بفضل غياب الإسلاميين ومقاطعتهم للعملية الانتخابية تحت مشرف.
ومع أن نتائج الانتخابات قد وضعت آخر مسمار في نعش السياسات التي اختطها حكم الرئيس مشرف غير المنتخب إلا أن الولايات المتحدة وكبار جنرالات الجيش الباكستاني الذين يتدخلون بصورة سافرة في العمل السياسي الباكستاني متخلين بذلك عن مهمتهم الأساسية يصرون على أن شيئا لم يتغير.
والحقيقة هي أن الإدارات الحكومية المختلفة في باكستان لا زالت تعمل وفقا لرغبات الرئيس مشرف مثل قيام الإدارات الرئيسة بوزارة الخارجية الباكستانية بترتيب زيارات ومقابلات بلال مشرف ابن الرئيس الباكستاني لعدد من الدول الأجنبية والشرق أوسطية لكي يقوم فيما يعتقده المراقبون بالإعداد لمشاريع لشركة استثمارات يترأسها مستغلا بذلك نفوذ والده.
وعلى الرغم من التحفظات الكثيرة على حزب الشعب الباكستاني واتجهاته العلمانية وما يشوبه من صلات مشبوهة مع القوى الشيعية في باكستان إلا أن الانتخابات التي فاز الحزب بموقع متقدم فيها قد أعادت تشكيل المسرح السياسي الباكستاني بصورة تختلف عن آمال الرئيس مشرف.
الناخبون الباكستانيون اقتلعوا مقولة الرئيس مشرف التي ظل يكررها بأن الأغلبية الصامتة تدعم سياساته من جذروها وقلبوا له الموازين رأسا على عقب موضحين له بأنه غير مرغوب به وأنه لم يبقَ لديه مما يركن له من دعم سوى ذاك الدعم الأمريكي والغربي. وهذا تغيير هام على الرغم من أن حزب الشعب الباكستاني (مجموعة بينظير) وحزب عوامي القومي (حزب عرقى بشتوني والذي تقدم مرشحوه في الإقليم الشمالي الغربي الحدودي وفي البرلمان الوطني بفضل غياب الإسلاميين عن الانتخابات) هما حزبان علمانيان إلى النخاع.
لقد ظلت عملية دعم نظام الرئيس مشرف وتقويته لمواجهة ما تصفه واشنطون بالتطرف والإرهاب حجر الزاوية في سياسة الولايات المتحدة بعد أحداث 11 سبتمبر لدرجة أنه يخيل للمرء في بعض الأحيان أن الولايات المتحدة هي التي دبرت وصول مشرف للسلطة في عام 1999م وأعدته لمواجهة أوضاع مشابهة لهذه الأحداث التي يشكك البعض في أنها كانت مدبرة لتكرس مواجهة الولايات المتحدة السافرة ضد كل ما هو إسلامي أو مسلم. ولكن تنامي المواجهات بين العسكر من جهة والمقاتلين المسلحين بمحاذاة حدود باكستان مع أفغانستان وكذلك تنامي الحملة التي تقودها طالبان الأفغانية ضد التواجد العسكري الأجنبي في ذلك البلد قد أثبت فشل هذه السياسة الأمريكية وانقلاب السحر على الساحر، وكان الأحرى بواشنطون أن تعيد النظر في هذه السياسة منذ مدة طويلة لولا اهتمامها بمصالحها فقط مهملة مصالح حليفها الرئيسي في الحرب ضد ما يدعى بالإرهاب؛ فقد تعقدت الأمور في باكستان بسبب هذه السياسات وقد تنجرف باكستان مجددا نحو المواجهات السياسية وأعمال العنف إذا تعنت معسكر الرئاسة ورفض نقل السلطة بصورة سلمية أمام رفض معظم القيادات السياسية لبقاء الرئيس مشرف في منصبه وهي القيادات التي قد تنشب الخلافات بينها بسبب ما قد يلجأ اليه مشرف من إثارة للفتن بينها عملا بأسلوب فرق تسد.
الرأي العام الباكستاني ومن خلال انتخابات 18 فبراير وغيرها من الاستفتاءات التي عقدت مؤخرا، أجمع على ضرورة إخراج مشرف من السلطة وإصلاح بعض ما أفسده في الشهور الأخيرة باعتبار وقوف سياساته وراء جميع أزمات باكستان الأخيرة.
قضية إعادة القضاة الذين عزلهم مشرف بموجب إعلان الطوارئ من جانبه في 3 نوفمبر (للمرة الثانية) سوف تحظى باهتمام رئيس من القيادات السياسية والبرلمانية التي وصلت إلى البرلمان الوطني الباكستاني، وقد يرضخ حزب الشعب الباكستاني بصفته الحزب الأكبر بالبرلمان أمام الضغوط الشعبية ويسهم في إعادة قاضي القضاة المعزول افتخار شودري الذي يواجه معارضة لعودته إلى منصبه من مشرف ومن بريطانيا وأمريكا بسبب إصراره على عدم السماح بإلقاء القبض على أي مواطن باكستاني من وراء القانون وبدون علم المحكمة ومحاولاته التي أغضبت مشرف واستهدف منها العثور على المئات من الباكستانيين المفقودين الذي اعتقلتهم أجهزة الاستخبارات التابعة لمشرف ولا يعرف لهم مكان أو يقتفى لهم أثر ولم يبقَ منهم سوى دموع ذويهم الذين يقابلون بالضرب والسحل ونزع الملابس عن أجسادهم أمام الملأ وعلى صفحات الجرائد إذا طلبوا الحصول على معلومة يتيمة هي ما هو مصيرهم؟
ولا يمكن لأي حكومة مدنية باكستانية أن تتخاذل أو تتقاعس أمام المطالب الأمريكية باستمرار التعاون في حرب واشنطون ضد الإرهاب وذلك لدور واشنطون المباشر أو غير المباشر في تشكيل الحكومات الباكستانية، إلا أن الرأي العام الباكستاني قد بدا أكثر وضوحا هذه المرة في الإعراب عن عدم ارتياحه من الاستراتيجية التي اتبعها حكم الرئيس مشرف في التعامل مع المسلحين بمناطق القبائل واستخدامه لقوة الجيش المفرطة ضدهم ويطالب باللجوء إلى الحوار كسبيل للتعامل مع المسلحين والبحث عن حلول للأسباب التي دعتهم إلى حمل السلاح؛ لهذا فإن عدد من القيادات السياسية الباكستانية العلمانية قد أخذت تطالب بالمزيد من مشاريع التنمية بمناطق القبائل وبالحوار مع المسلحين، بل إن نواز شريف رئيس حزب الرابطة الإسلامية الأقرب إلى الاتجاهات الإسلامية دعا إلى مطالبة واشنطون بتحديد مفهوم واضح ودقيق للإرهاب قبل التعاون معها في مكافحته مع تأكيده في الوقت ذاته على أن حزبه ضد جميع أشكال وصور الإرهاب.
محاولات واشنطون لإجبار السياسيين على القبول بمشرف كقائد لمسيرة حماية المصالح الأمريكية في المنطقة وفي باكستان لن تترك لها الكثير من الأصدقاء في هذا البلد وذلك على ضوء المتغيرات الكثيرة في اتجاهات الرأي العام الباكستاني.
وتأمل الإدارة الأمريكية في أن تواصل الحكومة الباكستانية القادمة السياسة الراهنة التي يتبعها الرئيس مشرف ضد الإرهاب. ولهذا فإن مسؤولين أمريكان عقدوا اتصالات مع قادة الأحزاب الفائزة لإقناعهم بالإستمرار في التعاون مع الولايات المتحدة في الحرب ضد الإرهاب وبالتالي إستمرار التنسيق مع الرئيس مشرف. ويرى عاصف زرداري أن الحكومة القادمة ستواصل التعاون مع الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب ولكن بأسلوب باكستاني وليس من خلال الحرب التي تقودها واشنطون، وطالب الحكومة بوقف العمليات العسكرية في إقليم بلوشستان الذي ترى الولايات المتحدة أن مناطق شمال الإقليم تعتبر سماء آمنة للقاعدة وطالبان.
وعلى الرغم من أن كل من حزب الشعب وحزب عوامي القومي يتجهان نحو الليبرالية والعلمانية ويؤيدان إستراتيجية الولايات المتحدة في حربها ضد الإرهاب بشكل آو بآخر إلا أنهما لا يستطيعان الوقوف إلى جانب الولايات المتحدة بالصورة التي اتبعها مشرف؛ لإدراكهما أن دور مشرف في الحرب ضد الإرهاب كان سبباً لرفض الشعب للمرشحين المؤيدين له، في حين أن مشرف ظل طوال سنيّ حكمه يقول أن الأغلبية الصامتة تدعمه وأنه لا يمكن جعل الأغلبية تبقى رهينة قلة من المعارضين لسياساته.
في حين يبدى نواز شريف عدم ارتياحه من الإستراتيجية التي تتبعها القوات الباكستانية في محاربة التطرف والإرهاب بمناطق القبائل حيث أوضح نواز خلال لقائه مع السفيرة الأمريكية أيني بترسون أن حزبه يدين جميع أشكال الإرهاب لكنه لن يتصدى له اعتمادا على الأسلوب العسكري وحسب بل أنــه لابد أولاً العمل على معالجة الأسباب المؤدية لظهور الأنشطة الإرهابية ودعا إلى حل جميع المشاكل من البرلمان وليس من خلال استخدام القوة.
وقد أبدى الرأي العام الباكستاني عدم رضاه المتزايد من تعاون باكستان مع الولايات المتحدة في حربها ضد الإرهاب، فقد اتضح من الاستفتاءات التي أجرتها المراكز الدولية المختلفة أن 89% من الباكستانيين يعارضون تعاون بلادهم مع الولايات المتحدة في هذا المجال على الرغم من أن 73% منهم يوافقون على أن التطرف والإرهاب مشكلة خطيرة يجب مواجهتها، بل إن الكثير من الباكستانيين يجزمون بأن الحرب ضد المتطرفين تصب في مصلحة الولايات المتحدة فقط.
الانطباع السائد لدى الأغلبية الساحقة في باكستان هو أن الإستراتيجية الناجحة ضد الإرهاب يجب أن تتضمن تدابير بعيدة عن الاستخدام المفرط للقوة العسكرية، وتتضمن المزيد من برامج التنمية والتمويل الدائم لخدمات التعليم وتوفير الوظائف ودعم أساليب توفير الرفاهية الاجتماعية، ومن هنا فإن الأمور تسير نحو فرض تغييرات على سياسة باكستان في مواجهة الإرهاب، خصوصاً وأن زرداري قد أعلن عن أن حكومة باكستان القادمة ستمد يد العون لسكان المناطق القبلية، وكذلك صدور تصريحات من نواز شريف - كما ورد آنفاً - بضرورة قيام الولايات المتحدة بتحديد مفهوم واضح لماهية الإرهاب وتوضيح معظم قيادات الأحزاب المعارضة لمشرف بأنه يجب أن تحل الكلمات مكان الطلقات في التفاهم مع المسلحين في المناطق القبلية الباكستانية. حزب الشعب وحزب عوامي القومي العلمانيين يعارضان أي حوار مع المتطرفين رغم إعلان حركة طالبان الباكستانية عن رغبتها للتفاهم مع الحكومة الجديدة بدون مشرف، إلا أن ضغوط الرأي العام الباكستاني ووجود نواز شريف في السلطة من شأنه أن يجبر الحزبين العلمانيين على فتح باب الحوار مع المسلحين القبليين المتطرفين.