هل تخرج باكستان من عنق الزجاجة؟!
4 ربيع الأول 1429

ها قد جاءت نتائج الانتخابات الباكستانية لتثبت أن نظام الرئيس مشرف فقد كل تمثيل شعبي له و إن كان هذا النظام في الواقع لم يحظ به البتة منذ قفز هذا الجنرال "القط" على السلطة في الانقلاب العسكري الذي قاده على رئيس الوزراء السابق نواز شريف في تشرين الأول/أكتوبر من العام 1999 إلا أن ما مكنه من البقاء في السلطة كل هذه الأعوام هي الظروف الدولية التي مكنته من أن يقدم نفسه على أساس أنه "شريك حيوي لا يمكن تجاوزه" منذ هجمات سبتمبر و ما تلاها من أحداث قلبت السياسة العالمية و العلاقات الدولية رأسا على عقب و جعلت من هذا البلد الإسلامي الكبير و الوحيد الذي يملك السلاح الإستراتيجي محكوما بموجب سياسة الأمر الواقع، تحت سلطة ديكتاتورية عسكرية أعادته عقودا طويلة إلى الوراء.
هذه النتائج و إن كانت أولية حتى الساعة إلا أنها أفرزت هزيمة واضحة لمعسكر النظام و صعودا لافتا و إن كان غير مفاجئ للمعارضة ممثلة في حزب الشعب الذي يبدو أنه استثمر إلى أقصى حد "مظلومية" زعيمته المغتالة بي نظير بوتو إلى جانب جناح حزب الرابطة الإسلامية الذي يقوده العائد حديثا من المنفى، نواز شريف أما الأهم من كل هذا، فهي الخسارة الواضحة التي حققتها الجهات الإسلامية المتحالفة مع مشرف حيث أظهرت النتائج أن الباكستانيين لا يرفضون النظام العسكري فقط بل إنهم لم يعودوا يولون الأحزاب الإسلامية التقدير الذي كانت تلقاه من قبل.
من هنا فإن الانتصار الذي حققه الحزبان الأبرز في المعارضة يفتح الباب واسعا أمام تطورات سياسية مهمة أكثرها إلحاحا في هذه الأثناء، هي إمكانية دخول هذين المنتصرين في ائتلاف يتيح لهما التشارك في الحكم خصوصا وأنهما في حال تمكنا معا من الحصول على الأغلبية المطلقة في مقاعد البرلمان، قد يفكران مستقبلا في طرح مشروع لنزع الثقة عن الرئيس مشرف أمام النواب و لكن هذا الخيار قد لا يكون حتميا إذ لا ينبغي هنا نسيان الماضي التنافسي الشرس الذي ميز العلاقة بين الحزبين و هذا يعني أنه في حال فشلت نشوة الانتصار في مساعدة القيادتين على تجاوز الخلاف التاريخي، فإن الرئيس مشرف سيكون المنتصر الأكبر لأن هذا الأخير سيطرح نفسه باعتباره "مركز استقطاب" للقوى عبر تقربه من إحدى الجهتين على حساب الأخرى و إن كان اقترابه من معسكر نواز شريف يبدو مستبعدا بالنظر إلى الطابع الشخصي للمشكلة بين الرجلين، فإن اقتراب مشرف من حزب آل بوتو يبدو ممكنا خصوصا و أن قيادة هذا الحزب الأخير تدرك حتما أن الأيام القادمة ستكون كفيلة بخفض سقف قوته الانتخابية مع بدء نسيان الراحلة بوتو زيادة على أن نجلها "بيلاوال" ما يزال يافعا على بلوغ مرحلة الكاريزما و هي الصفة التي لا يمتلك والده "آصف علي زارداري" منها شيئا يذكر.

في مقابل هذا، يبدو نواز شريف الذي عاد إلى باكستان في 24 من نوفمبر الماضي بعد ثمانية سنوات من المنفى، أكثر قوة و أقدر على تحقيق مزيد من الانتصارات مستقبلا فهو يتمتع بوضع فريد يجعله مقربا من الإسلاميين المعتدلين وفي ذات الوقت، من خصومهم الديمقراطيين خصوصا وأنه لعب على وتر المؤسسات و الشرعية حينما تعهد بإعادة القضاة الذين فصلهم مشرف من المحكمة العليا عقب تعليقه للدستور وإعلانه حالة الطوارئ في الثالث من نفس الشهر لأن كثيرين من هؤلاء يؤمنون بأن إعادة انتخابه على رأس الدولة "لم يكن دستوريا" وهنا يلتقي الحزبان المنتصران في الهدف ذاته المتمثل في ضرورة الإطاحة بمشرف وفي هذا الصدد تقول المنسقة الإعلامية باسم حزب الشعب فرح ناز أصفهاني: "لسنا مضطرين تحت دعوى الحاجة إلى التنظيف أن نعود إلى البداية" بمعنى أن موقف حزبها من هذا المطلب الأخير لا يتماهى مع موقف نواز شريف حتى وإن كان الطرفان يتفقان على ضرورة إنهاء حكم الجنرال.

مع كل هذا، نستطيع القول أن الجنرال/الرئيس مشرف في هذه الأثناء بات يمثل "رجل إسلام آباد المريض" أو ربما "بطة عرجاء جديدة" مثلما وصفه الصحفي حسن عسكري الذي هو أحد كتاب الأعمدة الباكستانيين الأكثر شهرة.
إلى ذلك، فإن حلفاء مشرف التقليديين الذين تأتي الولايات المتحدة في مقدمتهم أظهروا مرة أخرى سرعة تخليهم عن أخلص المتعاونين معهم فهؤلاء اكتفوا فقط بحث الجنرال على ضرورة تأمين سير الانتخابات في شروط جيدة وتحاشي التزوير ثم إجباره على القبول بنتائجها مما يعني أن الرجل حاليا مجبر على الاختيار بين أن يكون رئيسا شرفيا يتلخص دوره في التشريفات والمراسيم البروتوكولية أو أن يملك الشجاعة الأدبية الكافية لكي يقدم على الاستقالة الطوعية من منصب لم يحقق له ولا لبلاده شيئا عدا بعض "اللقيمات" التي ألقتها الطائرات الأميركية فوقه خاصة وأن هذه الأخيرة تعاني مشكلات كثيرة تغنيها عن التفكير في مستقبل حليفها فهي تعيش فشلا آخر لا يقل عن فشلها في العراق خطورة وهو ذلك الذي يقع في أفغانستان المجاورة حيث عاودت حركة طالبان الصعود وسط تصدع كارثي في لحمة حلف شمال الأطلسي ومن القطعي أن هذه الحركة لن تفكر مستقبلا في ربط علاقات حسنة مع نظام يكون الجنرال مشرف على رأسه في باكستان لأن هذا الرجل هو من قرر التخلي عنها مقابل وعود أميركية له خريف العام 2001 فساهم بشكل أحمق في إسقاط حلفائه القدامى ولم يكسب في المقابل غير مزيد ضغط من حلفائه الجدد مما يعني في هذا الإطار، أن أميركا في حال قررت التوصل إلى حل سياسي في أفغانستان ملزمة قبل أي شيء آخر، بإنهاء حكم مشرف حتى تقبل طالبان الجلوس معها على أية طاولة للتفاوض.

بالتالي فإن موقف الولايات المتحدة معروف ومتوقع وإذا ما كان الناطق باسم كتابة الدولة في واشنطن توم كيسي قد صرح صبيحة الانتخابات أن بلاده: "تأمل في وصول حكومة يمكن التعامل معها" وهو ما ردده تقريبا الناطق باسم البيت الأبيض شون ماكورماك ساعات قليلة بعد ذلك، فإن الرؤية اتضحت بشكل أكثر في ذلك المؤتمر الصحفي الذي عقده ثلاثة من أعضاء مجلس الشيوخ في الكونجرس الذين زاروا باكستان خلال الانتخابات وهم الديمقراطيان جون كيري المرشح السابق للرئاسة، وجوزف بيدن رئيس لجنة الشئون الخارجية في المجلس إلى جانب الجمهوري تشوك هاغل حينما صرح السناتور كيري قائلا: "نأمل أن يترك زعماء الأحزاب خلافاتهم الماضية في الماضي" !
لقد ظهر أخيرا أن مخاوف أميركا من انتصار الإسلاميين في باكستان كانت غير مؤسسة وعلى الرغم من تخوف المراقبين من الشبهات التي قد تلحق بالاقتراع زيادة على نسبة المشاركة المتدنية بشكل ملحوظ، فإن باكستان مع ذلك تقف الآن على باب عهد قد يكون بادرة تطور إيجابي لأنه يتعين على القادة السياسيين الذي أوصلتهم الانتخابات هناك إلى السلطة، أن ينتبهوا إلى أن مشكلات بلادهم الكثيرة لا تحتمل المناورة و تبادل المؤامرات فالوضع الاقتصادي متدهور وخطير إلى أقصى الحدود وأما الوضع الأمني فهو في مراحل متقدمة من التعفن وبالتالي فإنه سيكون من الأنسب لأبناء هذا البلد الإسلامي أن ينسوا خلافاتهم و ألا يعولوا كثيرا على أميركا لأن هذه الأخيرة لا ترى فيهم غير جبهة أمامية في حربها على ما تسميه "الإرهاب".
حري بالباكستانيين أن يدركوا حجم المخاطر ويلحظوا أن الهند التي هي جارتهم الصديقة اللدود، خطت خطوات عملاقة في سبيل التطور الاقتصادي وصارت تعتبر هي الأخرى تنينا يضاهي العملاق الصيني ضخامة و قوة فهل ينتبه الباكستانيون إلى أن التنافس مع الهند لا ينحصر فقط في السلاح النووي بل إنه يتعداه إلى مجالات أخرى كثيرة خاصة وأنهم جربوا كيف تحول هذا السلاح الإستراتيجي خلال السنوات الأخيرة من نعمة إلى نقمة تماما كما هي حالة العرب ونفطهم.