
ما الذي يجعل مؤتمرا يكون فيه الخصم حكما، فرصة للسلام و تحقيق العدل و موعدا لا يجوز التخلف عن حضوره في حين أن الأميركيين أنفسهم يشهدون على أن ما سيجري في تلك المدينة الصغيرة بولاية ميريلاند لا يعدو أن يكون حرصا بوشيا على تدارك وضع منهار؟ و هل كانت الدول العربية أصلا في حاجة إلى التقاء وزراء خارجيتها في القاهرة حتى تقرر الذهاب إلى مؤتمر أنابوليس بولاية ميريلاند الأميركية و إعطاء الأمور صبغة العمل التوافقي العربي؟ هل هنالك حقا من يؤمن بأن الدول العربية كانت تملك القدرة على رفض حضور مؤتمر يصلح للتباحث في كل شيء إلا السلام و في هذا الوقت تحديدا؟<BR>ثم هل إن الدول العربية من خلال قبولها هذا حريصة على التوافق فعلا أم تراها حريصة على عدم استجلاب الغضب الأميركي و بالمناسبة الإسرائيلي أيضا؟ ألم يكن من غير المطلوب أن تنظم الجامعة في القاهرة شيئا من هذا القبيل ما دام أمر المشاركة محسوما منذ البداية و أنه كان يفترض بها مثلا أن تفكر في تنظيم مؤتمر آخر حول وضع متفجر في لبنان يكاد أن يقلب الهدوء الحذر هناك إلى حرب جديدة كفيلة بأن تنكأ جروحا لمّـا تندمل و تحيل ذلك البلد الجميل إلى عراق جديد ينسي القديم؟<BR>واقع الحال يقول إن الأنظمة العربية لا تملك القدرة على المبادرة بدليل أنها تضبط كل سياساتها و أجنداتها الدبلوماسية وفقا لما تجلبه الأخبار و التطورات و هذا يعني أن هذه البلدان تمارس سياسة انفعالية تتأثر بالعوامل المناخية و تصعد و تهبط تماما كما تتحرك مؤشرات أسواق المال العالمية برغم من أنها من المنظور الاستراتيجي تحتل موقعا عالميا زاخرا بالنفط كفيلاً بأن يحولها من مجرد آبار بترول تزود أفران مطابخ ماكدونالدز إلى مواقع حراك سياسي فعلي تطبخ فوقها العلاقات الدولية و تضطر معها كل الدبلوماسيات أن تضبط سرعتها.<BR>هذا هو المفروض و لكنه بطبيعة الحال لا يمت إلى ما هو واقع في شيء فالنفط بات نقمة و لن نكشف سرا هنا حينما نقول أن بلداننا ما كانت لتكون أهم من بنغلاديش مثلا التي يبدو أن لا أحد مهتم بما حل بها مؤخرا لو لا ما يحتويه جوف صحارينا الشاسعة من طاقات تندر في باقي أنحاء العالم و تتحرك بسببها الأساطيل عبر المحيطات لتشعل حروبا تفوق قيمتها مئات مليارات الدولارات !<BR>صحيح أننا شعوب مفرطة في التشاؤم و هذه و لا شك، سمة ورثناها من أجيال انكسرت قبلنا إلا أنه من حقنا أيضا أن نسأل –و ألا ننتظر الإجابة- هل صحيح أن أنابوليس سوف تحقق ما عجزت عنه كل المؤتمرات و المباحثات السرية و العلنية قبلها؟ أليس الرئيس بوش هو آخر من يهتم بتسوية الملف الفلسطيني الإسرائيلي بدليل أنه جعل من هذا الأمر آخر مبحث يشغل به الشهور القليلة المتبقية له في البيت الأبيض اللهم إلا باستثناء ما قد يقدم عليه إمعانا في توريط الديمقراطيين بعده، من حرب مدمرة جديدة ضد إيران هذه المرة!<BR>لاحظوا: إن رئيس وزراء "إسرائيل" يعتبر أنه يتعين على الفلسطينيين أن يقروا قبل أي شيء آخر بالطابع اليهودي لدولته و ليس من حقنا هنا أن نثير الموضوع العرقي حتى لا تتحرك في وجهنا دعوات معاداة السامية الجاهزة دوما ثم إن أولمرت هذا و لنفرض أنه حريص فعلا على السلام، فهل ينفي هذا أنه يعتبر الأمر كله مجرد صراع فلسطيني "إسرائيلي" بمعنى أنه لا يقر و لو على سبيل اللباقة بوجود صراع عربي إسرائيلي بشكل يقودنا إلى التساؤل عن طبيعة الحضور العربي إلى ميريلاند من أساسه فهل نحن أطراف معنية أم أننا تنازلنا إلى درجة أن صرنا ضيوف شرف لا نحضر إلا لاعتبارات ديكورية تفرضها شروط الإخراج الإعلامي الجيد !<BR>معروف أن أولمرت هو واحد من أسوأ زعماء "إسرائيل" منذ قيامها قبل 89 عاما فهو أول زعماء جيل ما بعد الجنرالات المؤسسين و برغم ذلك، فإن بلاده عرفت بعد شهور قليلة من توليه الرسمي مقاليد رئاسة الوزراء، انتكاسة عسكرية غير مسبوقة في تاريخها بشكل أدى إلى انهيار شعبيته حتى دنت فتدلت و صارت قاب قوسين أو أدنى من الصفر و فوق هذا و ذاك، فإنه ينتظر تقرير لجنة فينوغراد النهائي الذي تقول التسريبات الإعلامية بأنه سيحمّل أولمرت شخصيا مسئولية مقتل عشرات الجنود في اليومين الأخيرين من حربه على لبنان صيف العام الماضي.<BR>في صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية لهذا الاثنين الأخير يمكننا أن نقرأ هذا التصريح الذي أدلى به المدعو بنيامين نتنياهو، زعيم المعارضة هناك –على فرض أن هنالك خلافا بين الطبقة السياسية الصهيونية- يقول فيه: "إن هذه الحكومة الحالية ضعيفة جدا بشكل يجعلها غير قادرة على اتخاذ القرارات خلال هذا المؤتمر بدليل أنها أفرجت عن مئات السجناء الفلسطينيين و لا أحد يعرف ما الذي تخطط له مستقبلا" !<BR>هي لا تخطط لشيء و هذا بديهي و لا يختلف عليه اثنان إلا ذلك الصنف من الذين يحرصون على نسيان دروس التاريخ القريب قبل البعيد و الذين تكفل أحدهم مؤخرا بالقول إن مدينتي: "سبتة و مليلية المغربيتين هما آخر المستعمرات العربية" حتى لكأن فلسطين و العراق و الجولان و ووو... تحررت بفضل تملقه.<BR>و مع ذلك فإن معنى كلام نتنياهو يفيد بأن أولمرت لا يملك القدرة و لا حتى أهلية اتخاذ قرارات مصيرية من هذا الحجم ثم إنه متحالف أصلا مع أطراف صهيونية لا تمتلك أي استعداد للدخول في أية تسوية مهما كان حجمها فلا تنتظروا منه غير الصور الفوتوغرافية أمام عدسات المصورين، أي شيء آخر و ها هو الصحفي كون كوفلن من الصانداي تلغراف اللندنية يقول في عدد هذا الأحد: "لقد ترك بوش التعامل مع فلسطين حتى وقت متأخر و حينما تصل الوفود المشاركة إلى أنابوليس فإن الشخص الذي في وسعه أن يحقق اختراقات حقيقية و يجعل اللقاء مثمرا، يرقد الآن في غيبوبة" و هو يقصد هنا طبعا الجنرال أرئيل شارون إذ ليس من عادة البريطانيين استعمال أساليب النحويين حتى نعتقد أنه يوظف الكناية في التلميح إلى الرأي العام العربي المغيب.<BR>مع ذلك فإن زعماءنا يصرون على الحضور عساهم يسهمون في حفظ ماء وجه الرجل و بالمناسبة، يمنحون الرئيس بوش المتهافت رفقة حزبه هو الآخر، بالون أكسجين قد يعيد إلى الجمهوريين هناك بعض الأمل في الاحتفاظ بالبيت الأبيض في استحقاقات الرئاسة خلال شهر نوفمبر القادم.<BR>فالرئيس بوش نفسه يدرك أن الوقت أمامه لم يعد كافيا لكي يحقق أي اختراق على هذا الملف الذي انكسرت فوقه محاولات أكثر جدية خاضها قبله سلفه الرئيس كلينتون.<BR>هدف الرئيس بوش واضح: إنه يبحث عن دور و أثر تاريخي و لكن هذا لن يكون ممكنا على هذا النحو الذي يسير به الرجل لأنه إذا ما كان حقيقة يرغب في تحقيق أي تقدم فإنه ملزم على أن يكون صارما في وقوفه إلى جانب المنطق فيفرض على الجانب الإسرائيلي الذي لا يملك خيارا آخر غير الموافقة، قبول حل الدولتين و عودة إلى حدود ما قبل 1967.<BR>هذا الفاصل الأخير هو جوهر الخلاف فعلى عكس ما يبدو من توافق قررت المجموعة العربية أن تصوغ مبادرتها وفقه، فإن للأميركيين رأيًا آخر ملخصه أنهم غير مستعدين لإجبار الإسرائيليين على إخلاء الكتل الاستيطانية من الضفة بشكل نهائي و بالتالي فإن التصور الأميركي يدور حول نقاط ثلاث:<BR>- انسحاب "إسرائيل" إلى خارج الضفة الغربية مع الإبقاء على نقاط التكتل الكبيرة القريبة من خط 1967 و هذا ما يمثل نحو 5 % من مساحة الضفة الغربية في مقابل أن ’تلتزم‘ "إسرائيل" بتعويض الفلسطينيين بما يوازي تلك المساحة في صحراء النقب جنوب فلسطين التاريخية.<BR>- الاعتراف بحق عودة اللاجئين منذ العام 1948 و لكن ليس بالشكل الذي تتصوره الأطراف العربية بل: العودة إلى فلسطين ’الجديدة‘ (الضفة و القطاع) و نسيان فكرة العودة إلى داخل أراضي الـ48.<BR>- الاعتراف بالقدس عاصمة للدولتين مع إمكانية جعل الأماكن المقدسة فيها (الأقصى و قبة الصخرة، كنيسة القيامة و حائط البراق) تحت إشراف أممي غير قابل للتغيير.<BR>هذا هو جوهر التفكير الأميركي و تصوره للحل و بقي هنا الحديث عن دور الأطراف العربية التي يبدو و أن مجرد حضورها هو دفعة قوية لبوش و فريقه في وجه الخصوم في الداخل من الديمقراطيين و الخارج من الروس و الصينيين و بعض الأوساط اليسارية خاصة في أوروبا. فهل من الممكن أن يكون الموقف العربي قويا و صارما يقوي الرئيس عباس و يعفيه من أن يمنح الإسرائيليين مجانا ما لم يمنحهم الراحل أبو عمار في العام 2002؟<BR>في وسع الرئيس بوش و لقد فرض الحضور على أطراف كثيرة أن يستغل الفرصة و يحقق تطورا إلا أن هنالك شيئا أكيدا ملخصه أن أي تطور متوقع سوف يظل مرهونا بمدى جدية البيت الأبيض و استعداده الفعلي للحل إذ يبدو و أن الآنسة رايس وحدها هي من ترى إمكانية ذلك على عكس تشيني و أقرانه من الذين يشحذون الطاقات صباح مساء بقصد إعلان الحرب على إيران و بالتالي، كسر شوكة حلفائها في المنطقة من السوريين إلى حزب الله و حركة حماس و ليس لديهم على مستوى الملف الفلسطيني غير الوعود حتى و لو كانت على وزن دعوة "إسرائيل" إلى الانسحاب من الجولان على أمل تحييد سورية في أي حرب قادمة !<BR>و لكن بوش الذي نعرفه منذ سبع سنوات الآن لا يمت بصلة إلا لهذا الصنف من السياسيين الحريصين على سلوك الدبلوماسية المتوازنة و بالتالي فمن المحتمل جدا أن يهمس في أذن ضيوفه خلال حضورهم أنابوليس، على رأي الدكتور حمد الماجد: "أيها السادة: أنا البوليس الذي ينظم سير المبادرات، فأسمح بالمرور للمبادرة التي تدخل مزاجي وترضي أحبابنا الإسرائيليين، ومنها تلك التي تنطلق من "إسرائيل" الدولة الوحيدة المتحضرة في المنطقة، أما المبادرات العربية ومنها المبادرة العربية الأخيرة للسلام فمع أنها ستعترف بإسرائيل وبالتطبيع الكامل معها مقابل انسحابها من الأراضي العربية المحتلة وبالتحديد ما قبل حرب 67، إلا أنني وأنا في «أنابوليس» أؤكد أنني «أنا البوليس» فلا أسمح لها بالمرور، بل إن تنظيمي لهذا المؤتمر هو في حد ذاته عبارة عن قسيمة مخالفة بوليسية في حق المبادرة العربية أصدرتها أنا البوليس في ’أنابوليس‘" !!<BR>إنه في غياب موقف أميركي واضح و عملي فلا شيء سيتغير و سوف يولد مؤتمر أنابوليس ميتا و لن تنفع هذه العملية القيصرية في أن تبعث الحياة فيه لأنه يحمل جينات انقراضه في روحه و لن يحقق شيئا إلا ربما استثناءً وحيدا ملخصه: تكفل الوفود العربية بوأد ما تبقى مما سمي مجازا ’مبادرة السلام العربية‘ التي وقعت عليها قمة الجامعة في الرياض خلال الربيع الماضي لأنه من الواضح جدا أن "إسرائيل" و أميركا معها طبعا، لن تستطيعا في الوقت الحالي غير تقديم الوعود و سوف تطالبان في مقابل ذلك بما هو ملموس و جدي فهل لدى العرب من ملموس آخر غير التطبيع مقابل وعود غير قابلة للتحقيق؟<BR><br>