متفرقات وتناقضات
20 رجب 1428

منذ أسابيع نظم دعاة الشذوذ في روسيا مظاهرة في قلب أحد الميادين الكبرى في موسكو وساندهم بعض نواب البرلمان الأوروبي وفجأة انشقت الأرض عن مجموعة من الشباب القوي يرتدون زياً موحداً، أشبه بالميليشيات، وأخذوا يضربون مجموعة الشواذ وأنصارهم البرلمانيين الأوربيين بشدة حتى فضّوا التجمع وظلت الشرطة تراقب الوضع دون تدخل إلى أن انفض جميع الشواذ، وهنا تدخلت لتفريق من تبقى منهم ثم تحولت إلى إبعاد المجموعة المهاجمة. <BR><BR>حدث هذا المنظر تحت سمع وبصر أعداد كبيرة من الصحفيين ونقلته الكاميرات الإعلامية كما نقلت معه تصريحات لأحد الشباب المهاجمين يقول فيه بفخر واعتزاز إنه من المؤمنين بالمذهب الأرثوذكسي الذي يحرّم هذا الشذوذ وإنه كان يجب عليه وعلى زملائه أن يتحركوا لحماية عقيدتهم ورفع العار والمجاهرة بالفسق والفجور على تراب بلادهم وفي قلب عاصمتها. <BR><BR>وبعد أسابيع من هذه الحادثة وقعت حادثة أخرى نجم عنها رد فعل مناقض تماما. ففي المسجد الأحمر بإسلام أباد ذكرت الصحف ـ ولست أدري مدى صحة ذلك ـ أن بعض الفتيات من الطالبات بالمدرسة الملحقة بالمسجد أو ممن يتلقين العلم بداخله قد خرجن منه لمحاولة عقاب بعض السيدات في المنطقة المجاورة بحجة أنهن يمارسن الدعارة. وفي هذه المرة لم تقف الشرطة تتفرج ولم تقم وسائل الإعلام بدور المتعاطف، بل أبرزت هذه الواقعة على أنها دليل دامغ على أن المسجد الأحمر قد أصبح وكرا لنشاطات التطرف والإرهاب وقلب نظام الحكم في البلاد، ثم اتخذت مع غيرها من تصريحات وصفت بالتشدد من جانب إمام المسجد ورواده ذريعة لقيام الجيش الباكستاني بعملية الاقتحام الدموي المعروفة لمسجد كبير في قلب مدينة إسلامية كبرى وفي بلد إسلامي كبير مما أسفر عن سقوط العشرات من القتلى والمئات من الجرحى كما أسفر عن بدء اشتعال حركة ثورة ووقيعة بين المسلمين من أبناء الوطن الواحد وقد انقسموا إلى جيش هائج ومواطنين ثائرين لما تعرّّض له أبناؤهم ورموز ديانتهم. <BR><BR>وهنا برز التناقض بين وضع يسمح فيه لكنائس في الغرب ـ وروسيا جزء معه ـ بممارسة فرض عقيدتهم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب مفهومهم الخاص، في وقت ينكر فيه على المسلمين وفي بلادهم ممارسة نفس الأسلوب حتى في إطار ضوابط الشرع والقانون.<BR><BR>ومن التناقضات الملحوظة الأخيرة ما حدث في مصر حينما شرع رئيس الكنيسة الأرثوذكسية ـ في حملة مفاجئة ـ في القيام بنشاط واسع لتوحيد الكنائس التي تتبع المذهب الأرثوذكسي رغم كثرة الخلافات بينها. <BR>وبدأ ذلك مع الكنائس الحبشية والأرمنية وسط إعلان سياسي واضح بأن هذا النشاط موجّه لمواجهة الأوضاع القائمة في الشرق الأوسط مما يعني أن الهدف ليس كما يتبادر إلى الذهن مجرد توحيد لبعض الكنائس ذات المذهب المشترك بل عمل سياسي لتوحيد أبناء الدين ذي الطائفة الواحدة وسط أوضاع سياسية عامة لإيجاد كيان لهم وسط تلك الأوضاع. <BR><BR>وجاءت هذه التطورات وسط نشاطات سياسية واضحة أخرى لتلك الكنيسة داخل وخارج مصر وسط أجواء عامة في مصر وخارجها وفي سائر المنطقة العربية تهاجم ما تصفه بإدخال الدين في السياسة وتحرّض على علمانية سافرة حتى في إعلام بعض الدول التي يفترض أنها تتّبع سياسات أو توجهات إسلامية. <BR><BR>أما عن توحيد الملل والمذاهب والطوائف فحدّث ولا حرج. فبينما يخرج الرئيس الروحي لطائفة مسيحية بدعوة لتوحيد سائر أبناء طائفته, سواء في مواجهة أوضاع سياسية عامة، أو رغبة في التوحّد، فإن عوامل التفرقة والانقسام والتشرذم تنشر بعمد بين المسلمين في المنطقة، رغم أن ما بينهم من عوامل الوحدة اكبر بكثير مما بين أصحاب الأديان الأخرى. <BR><BR>وأصبحت السمة العامة الآن هي الانقسام حتى بين أفراد الفرقة أو الجماعة الواحدة التي كانت قد نجمت عن انقسامات سابقة. ووصلت الانقسامات إلى صفوف علماء الدين والمؤسسات الدينية الكبرى ليس فقط بين بعضها البعض ولكن في داخلها. ويلفت النظر أن هناك أجهزة وأنظمة وجماعات من النخب العلمانية وحتى غير العلمانية ممّن تدّعي الدين تروّج لهذه الانقسامات بشكل مريب وتحرّض عليها وتفسد محاولات الوحدة ولمّ الصفوف إزاء التحديات الكبرى التي تواجهها الأمة. <BR>ولقد وصل الأمر في بعض الحالات إلى قيام أجهزة رسمية بإحياء جماعات وصفت بالإسلامية وإخراجها من غياهب السجون وغياهب النسيان لتستخدمها ليس فقط في وجه جماعات أخرى إسلامية، تتحسب السلطات منها، بل في وجه علماء المؤسسة الدينية الرسمية ذاتها والتي يدبر لها ـ بليل ـ السوء في إطار محاولة النخبة العلمانية الحاكمة التحول إلى النظام العلماني الأتاتوركي صراحة كما بشّر أحد مستشاريهم في مقال له أخيراً بصحيفة عربية تصدر في لندن.<BR><BR>ومن التناقضات في الآونة الأخيرة الكاشفة عن الكثير ما حدث في قضية الممرضات البلغاريات اللواتي تجمعت الدور الأوروبية عن بكرة أبيها وليس دولتهن فقط لتسقط عنهن عقوبة الإعدام وتحل محلها عقوبة -هي السجن المؤبد - لن تنفذ لأنهن سوف ينقلن إلى بلدهن بحجة قضائها هناك ومن ثم سوف يفرج عنهن بعيد أسابيع قليلة أو حتى أيام بعد هدوء الضجة الإعلامية , بل قد تم الإفراج الفعلي عنهن فور وصولهن بلادهن .<BR><BR>وقد تم التحايل على حكم الإعدام المستحق بالحديث عن تطبيق مبدأ الدية وولاية الدم ورأي الإسلام في الموضوع بينما يقبع في سجون تلك الدولة العربية أعداد من الناس لا يعلم إلا الله مداها بتهمة العمل لتطبيق الشريعة الإسلامية أو الانضمام إلى تنظيمات إسلامية وبعضهم ينتظره حكم الإعدام دون أن يتحدث أحد عن حكم الشريعة في حالتهم بل وفي الوقت الذي يتحدث فيه مسئول تلك الدولة عن محاربة ما يسمونه بالتطرف الإسلامي.<BR><BR> والأكثر من هذا ذلك الترصد والتحشد الذي حدث من جانب الدول الأوروبية ومعها منظمات دولية عديدة وانضمت إليهم دول عربية أخرى تحتفظ في سجونها بمظاليم ـ وليسوا مدانين عن حق ـ تسومهم سوء العذاب دون أن يسأل عن مصيرهم أحد ـ وبالذات من دعاة حماية حقوق الإنسان ـ وما أكثرهم هذه الأيام.<BR><BR> إن تحشّد الدول الأوروبية من أجل باطل يخص دولة صغيرة ليس لها وزن في منظومتهم يدل على مدى التساند والتوحّد الذي يتسم به هؤلاء، ولو في باطل، بينما موقف الدول المعنية بالقضية ومعها الدول العربية التي بلورت موقف العفو عن الممرضات المدانات يدل على تخاذل واستخذاء أمام الغرب في وقت يسود فيه التجبر والاستكبار والطغيان في العلاقة مع المواطنين في الداخل، كما أن الحديث في هذه القضية بالذات عن الشريعة الإسلامية, ولو في شكل مبتسر، في وقت تضرب فيه الشريعة ودعاتها وتسحب من مجال الحياة العامة والقوانين، يدل على نفاق جاوز الحد.<BR><br>