الجمهورية الساركوزية المتوسطية و"إسرائيل"
15 رجب 1428

لم ينتظر (الرئيس الفرنسي الجديد) نيكولا ساركوزي كثيرا ليتحرك في أكثر من اتجاه، و نحو أكثر من هدف.. فبعد زياراته المكوكية لدول المغرب العربي لإقناع أنظمتها ـ و ليس شعوبها ـ بالبديل الأطلسي على حد تعبير الصحف الفرنسية، عبر مشروع يراد به " تدجين الدول المتوسطية اقتصاديا و سياسيا و أمنيا و ثقافيا ـ، و بعد محاولة " جمع الفرقاء اللبنانيين" في فندق خمس نجوم في العاصمة الفرنسية باريس، و بعد العملية الهوليودية التي قامت بها زوجته إلى ليبيا لتخرج متأبطة خبر إطلاق سراح الممرضات البلغاريات، وبعد رسائله الحميمة الموجهة إلى الولايات الأمريكية و التي كان آخرها رغبته في نسيان "حقبة شيراك" و البدء على العمل المشترك " لمكافحة الإرهاب" و أخيرا صفقته الصريحة مع "إسرائيل" والتي نتج عنها إرسال 600 مهاجر "إسرائيلي" في يومين تحت صيغة " عودة المهاجرين اليهود إلى أرضهم الموعودة.."! بعد هذا يتحول الرجل اليهودي الأصل إلى المواطن الفرنسي الأكثر نشاطا من منظور الصحف التي صارت موالية للإليزيه منذ عهد بسيط..!<BR>ما كان يقوم به " جاك شراك" بين الفينة و الأخرى " سريا"، صار يقوم به ساركوزي علانية، بحيث انه يعترف أن الدول التي كان يمكن الخوف منها لم تعد قائمة، و أن قوة التضامن الأوروبي لا يمكن أن تكون بمعزل من الولايات الأمريكية، بحيث أن التقارب بينه و بين المحافظين الجدد هو الذي سوف يؤسس في النهاية العلاقة الفرنسية الأمريكية ما بعد جورج دابليو بوش، حتى بوصول الديمقراطيين أنفسهم و الذين اعترفت الواشنطن بوست أن العديد منهم أيّـدوا الحرب بشكل كبير قبل أن يتراجعوا عن تأييدهم نتيجة الكوارث الكبيرة التي يتلقاها الجيش الأمريكي في العراق و التي تجاوزت كل الاحتمالات السابقة بكثير.. ساركوزي الذي اتهم سابقه " بالتخاذل" في حماية المرجعية الثورية !" الفرنسية إبان حملته الانتخابية المسعورة، يريد اليوم أن يوجه إلى الفرنسيين خطابا غريبا على مسامعهم، مستمد من "الرؤية الأمريكية" لمكافحة الإرهاب تحت خاصية" نحن في خطر" و أن ثمة " عدو حقيقي يعيش بيننا" و هو طبعا في المنظورين الأمريكي و الفرنسي الراهن اسمه: " العدو الإسلامي"..!!! <BR><font color="#0000FF">ما المطلوب من الآخرين؟</font><BR>بشكل لا يمكن اعتباره مفاجأة بأي حال من الأحوال، يريد نيكولا ساركوزي أن يبدو الرئيس المثالي للفرنسيين، فهو منذ كان وزيرا للدفاع أراد أن يلعب الدور البطولي في فيلم فرنسي كان شعاره الأول "الأمن القومي الفرنسي" و هي العبارة التي بدت غريبة على مسمع الرأي العام الذي لم يكن يرى أن ثمة خطر حقيقي على الأمن القومي الفرنسي الذي هو جزء من الأمن القومي الأوروبي باعتبار أن فرنسا جزء لا يتجزأ من الاتحاد الأوروبي، و لديها اتفاقيات مهمة موقعة في مجال الدفاع و الأمن القومي، ناهيك على قرارات كثيرة تعتبر " أي تهديد يتعرض له بلد من البيت الأوروبي" هو تهديد لكل أوروبا، و هي الصيغة الواضحة التي تجعل عبارة " الأمن القومي الفرنسي" مثيرة للسخرية لأنها تناقض المعاهدات التي وقعت عليها فرنسا منذ زمن، و تناقض القانون الأوروبي الموحد و الذي على أساسه صارت فرنسا جزءا منه و صارت تتعامل بنفس عملته النقدية اليورو و ليس بالفرنك الفرنسي.. مع ذلك.. استطاع هذا اليهودي المجري الفرنسي ( المخلص!) أن يفرض على الفرنسيين مصطلح " الأمن القومي الفرنسي" و عمل على تأسيس ثقافة أمنية مختلفة، تبناها الأمن الفرنسي بحذافيرها، والتي يصادف أنها النسخة طبق الأصل من المشروع الأمريكي لما يسمي بالأمن القومي و الذي أسسه " دانييل بيبر" اليهودي الأخطر في مؤسسة الأمن القومي الأمريكي.. نيكولا ساركوزي لم يجلب شيئا من مخيلته هو، بل من مخيلة المحافظين الجدد، حتى بتعيينه بعد فوزه شخصا مثل " برنار كوشنير" ليس صدفة أيضا، و ليس لأن برنار كوشنير رجل تكنوقراطي و دبلوماسي من الطراز النادر كما امتدحته الصحافة الفرنسية، بل لأن ساركوزي بحاجة إلى شخص براغماتي في شكله، و قريب جدا من الرؤية الأمريكية التي تسعى إلى خلق كل أنواع التوتر لأجل تنفيذ الخطة الأهم: إفراغ فرنسا من " الأصوليين" كما تسميهم الصحافة الفرنسية، و التي تعتبرهم الخطر رقم واحد على الأمن الفرنسي...! <BR>لعل الجميع يتذكر ذلك البرنامج الوثائقي الخطير الذي عرضه التلفزيون الفرنسي، عن عملية مراقبة قام بها الأمن الداخلي الفرنسي.. الفيلم عرض كيف أن الشرطة ظلت تراقب شابا مغاربيا مشتبها به.. كان المشهد الذي شد ملايين الفرنسيين يصور شابا مغاربيا و هو يمشي ثم يدخل إلى عمارة.. فتتوجه الكاميرا بطريقة الزوم إلى نافذة من أحد الطوابق حيث يرى ظلال غريبة و غير واضحة.. تلك ظلال لمجموعة إرهابية يقول المشهد!! و يخرج الشاب بعد ساعة أو ساعتين حسب الفيلم الوثائقي، و تعود الكاميرا إلى مراقبة حركات يده، إذ بطريقة زوم أيضا يرفع الشاب قميصه قليلا فيظهر ما يشبه المسدس..! تعتقل الشرطة الشاب و تداهم الشقة و تلقي القبض على "الإرهابيين" الذين يهددون الأمن القومي الفرنسي! و طبعا هم مغاربة، بمعنى أنهم مسلمون..!! ربما يتذكر من شاهد ذلك الفيلم الوثائقي أن معدة البرنامج استضافت يومها نيكولا ساركوزي شخصيا ( الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع ) و حاورته مطولا عن مشاهد ذلك الفيلم الوثائقي و عملية الاعتقال، و قال ساركوزي الكثير يومها.. بدا كالناطق الرسمي باسم " الأمن القومي الفرنسي" و تكلم عن الخطر الذي يهدد فرنسا.. و عن حق الشرطة الفرنسية في اعتقال من تشتبه بهم. و من حق الشرطة أن تستجوب أي شخص تشتبه به حتى لو كان بريئا، لأن الأمن القومي الفرنسي يستدعي ذلك..! و لعله في تلك الفترة، غذت الأوضاع الأمنية السيئة في دول مغاربية مثل الجزائر و المغرب روح الضغينة الفرنسية عبر صحفها و صارت تستعمل بدورها عبارة " مكافحة الإرهاب"، إذ ذهبت بعض الصحف إلى القول " أن الإرهاب الأصولي" هو أخطر ما يمكن أن تتعرض له فرنسا، وهي العبارة التي استعملها ساركوزي مرتين في حواراته الأخرى..! وما جرى في بريطانيا مؤخرا جعل أكثر من 60% من الفرنسيين في سبر للآراء يقولون: ساركوزي على حق...!!<BR><font color="#0000FF">الحنين إلى الجذور! </font><BR>الظروف التي أوصلت ساركوزي إلى قصر الإليزيه كانت استثنائية من حيث أنه كان المرشح الأقرب إلى البراغماتية التي يحبها الفرنسيين، و إلى الغرور الذي ينسي الفرنسيين أن الذي يحكمهم ليس فرنسيا في النهاية، و أنه مهما بدا "قوميا" فهو يتجذر من أصول يهودية يشعر اليوم بالحنين إليها.. فحين زيارة ساركوزي ـ قبل حملته الانتخابية ـ إلى "إسرائيل"، بدا في غاية التفهم للسياسة "الإسرائيلية".. زار كل المعابد الرسمية اليهودية و صلى فيها، و التقى "أقاربه " الذين يقيمون في تل أبيب و القدس الغربية.. كان يبدو كشخص يعود إلى أهله في ثياب رسمية، و كتبت عنه الصحف "الإسرائيلية" الكثير من المقالات تصف " ثقافته السياسية العالية" و "رؤيته الثاقبة" للأشياء، و تذكر اليهود أن ساركوزي هذا هو شقيقهم في الدم، شخص متأمرك الثقافة و متصهين الطباع، يجيد كيف يتعامل مع كل القضايا الدولية بحنكة الذئاب الذين يعرفون في النهاية أن العرب ليسوا أقوياء ليجاملهم على حساب القوة "الإسرائيلية"/ الأمريكية، بالخصوص في ظل الانهيارات المهينة للمواقف العربية الراهنة، و في ظل العجز الرسمي على مجرد قول " يكفي" إزاء الظلم القائم.. صحيفة مثل " دلتا" كتبت أن " 12 ألف أمريكي تظاهروا للمطالبة بسحب الجيش الأمريكي من العراق، وأنه في مدينة أخرى تظاهر 6 آلاف أمريكي ضد الجرائم الصهيونية في الأراضي المحتلة، بمعنى أن 18 ألف شخص خرجوا للاحتجاج على ظلم واقع في دول خارج دولتهم، في الوقت الذي يتفرج فيه كل العرب على نفس المشاهد دون أن يحركوا ساكنا.. كما تقول الصحيفة! و هي الرؤية التي ينقلها الإعلام الدولي عن العرب بأنهم أضعف من النملة، و أصغر من البعوضة.. ! يشعر أنه يستطيع أن يفعل الكثير، فهو لا يحتاج إلى مجاملة الأنظمة العربية ، و لا يحتاج إلى مجرد تبرير ما يقوله من تصريحات عنصرية في بعضها وصهيونية في بعضها الآخر، فهو إن سافر إلى الجزائر ( أول زيارة رسمية له بعد انتخابه ) فلأنها رسالة مباشرة إلى الفرنسيين الذين إلى الآن يعتبرون الجزائر ( بؤرة إستراتيجية مهمة بالنسبة لهم ) ولأنه يريد تمرير مشروعه المتوسطي الذي لن يختلف عن المشروع الأمريكي الراهن سوى في شيء واحد، و هو أن تكون فرنسا هي من سوف توزع " عظمة" لكل كلب ينضم إلى المشروع المتوسطي الجديد من الدول غير المتوسطية، تماما كما تفعل أمريكا في العراق..! <BR>ساركوزي المتأمرك الصهيوني، لن يكون شيراك أبدا، و لن يسمح لأحد بانتقاده، و هو السبب الذي جعله يعيد فتح ملف الأمن القومي والحق في اعتقال و استجواب و طرد أي "مشتبه به" و الحق في الدفاع عن الدولة الفرنسية، و الذي يعني انه سيضع لاحقا قوانين جديدة تعيد إلى أذهان الفرنسيين تلك التي وضعها جورج دابليو بوش بعد وصوله إلى البيت الأبيض و الذي بدأت بخلق حالة من الذعر في النفوس لأجل افتكاك الضوء الأخضر "لحمايتهم" من الإرهاب، و هو تماما ما سيفعله ساركوزي عبر مشروع نتف ريش المهاجرين أولا، و عبر وضع قوانين تحد من وجود الإسلام في فرنسا و تحد من نشاطات الجمعيات الدينية و الخيرية و التربوية الإسلامية في فرنسا أيضا.. و من لم يعجبه الأمر يوضع في طائرة نحو بلده الأصلي.. ! كيف لا و هو من رحّل 600 يهودي إلى " بلدهم !" بمعنى أنه إنجاز " عظيم" حققه، يقول عنه بصريحة العبارة: إن كان ساركوزي اليهودي قد "طـرد ـ في ظرف يومين ـ " 600 يهودي إلى " بلدهم !" فهل سيرحم المهاجرين العرب؟!!<BR><br>