الملفات الصعبة بعد اكتساح "العدالة" التركي لانتخابات البرلمان!
11 رجب 1428

بفوز حزب العدالة والتنمية ذي التوجه الإسلامي بأغلبية كبيرة كانت متوقعة (340 من المقاعد من 550 بنسبة 48% من الأصوات) في انتخابات البرلمان التركي يوليه 2007 ، أي بزيادة تقدر بنحو 13% عما حققه في انتخابات عام 2002 ، وقصر التمثيل البرلماني عليه في مواجهة حزبين علماني وقومي متطرفين هما : "الشعبي الجمهوري" (علماني يساري فاز بـ 110 مقاعد بنسبة 20%) ، و" الحركة القومية" (قومي فاز بـ 72 مقعداً بنسبة 14% ) ، يمكن القول إن الفرز السياسي في برلمان عام 2007 سيكون أكثر حده ، ما يعني بالتبعية أن الملفات التي من المنتظر أن يخوض فيها "العدالة" مستقبلا ستكون أكثر صعوبة.<BR>صحيح أن مقاعد "العدالة" تقلصت (نظريا) من 354 في برلمان 2002 إلى 340 مقعداً في البرلمان الجديد بسبب خوض عدد أحزاب أكبر لتلك الانتخابات ، ولكن الصحيح أن تقلص عدد أحزاب الفائزة في البرلمان إلى 3 أحزاب فقط من 14 حزباً في الانتخابات الأخيرة ، رفع من نسبة فوز العدالة في البرلمان إلى 46% بدل 33% في انتخابات 2002 ما يعتبر تفويضا شعبيا أكبر في تنفيذ برامجه وفق نظرية "التغيير المتدرج الهادئ" .<BR>ويمكن القول أن الملفات الصعبة التي ستواجه العدالة خلال فترة حكمه المقبلة تدور حول : العلاقة مع الجيش- انتخابات الرئاسة- مفاوضات الانضمام للاتحاد الأوروبي – قوانين الإصلاحات الدستورية وضمنها حرية الحجاب وإنصاف التعليم الديني – وقضية تحول النموذج التركي لنموذج إسلامي معتدل في الحكم يصلح للشرق الأوسط وتشجعه أمريكا .<BR>الملامح الأولي لفوز أردوجان بولاية ثانية مدتها خمس سنوات وتشكيله الحكومة منفردًا – لأول مرة في تركيا منذ فوز عدنان مندريس بولاية ثانية وإطاحة الجيش العلماني به – تؤكد أن فوز العدالة جاء بمثابة ضربة قاضية للعلمانيين خصوصا قادة الجيش والمحكمة الدستورية والرئيس الحالي سيزار الذين اضطروا زعيم الحزب الحاكم للدعوة إلى انتخابات مبكرة بعد خسارته معركة اختيار رئيس البلاد عبر البرلمان بسبب تفسيرات غريبة لمواد غامضة في الدستور بشأن التصويت علي الرئيس .<BR>والملامح الأولى تؤكد أيضا أن فوز "العدالة" معناه تفويض شعبي له بالاستمرار في سلسلة الإصلاحات الاقتصادية والسياسية في البلاد ، وتقليص صلاحيات العسكريين ودعاة الانغلاق على مبادئ أتاتورك العلمانية ، والأخذ بمفهوم مختلف للعلمانية يقوم على التقدم والتطور وليس فصل الدين عن الدولة ومنع الحجاب .<BR>أما أهم تطور سيترتب علي هذه النتائج فهو أن حزب العدالة ضمن بذلك وصول رئيس جمهورية "إسلامي التوجه" من الحزب لسدة الحكم بعد 79 سنة علمانية منذ انهيار دولة الخلافة الإسلامية في تركيا ، بعدما أجهض الجيش والمحكمة الدستورية هذه الخطوة ، ليقتحم بذلك عرين أحد أضلاع المثلث العلماني المسيطر في تركيا (الجيش – الرئاسة – المحكمة الدستورية) ، فضلا عن أنه ضمن أيضا تمرير العديد من القوانين في البرلمان . <BR><font color="#ff0000"> ملف الجيش .. الأصعب ! </font><BR>لو أدركنا أن المعركة الرئيسة التي قادت لانتخابات مبكرة في تركيا كانت بسبب الخلاف بين الجيش ( ومعه الرئيس سيزار وقضاة المحكمة الدستورية) وحزب العدالة بشأن اختيار رئيس جديد للجمهورية ، فضلا عن قرارات حزب العدالة المتعلقة بتوسيع إطار الحريات وتكبيل صلاحيات الجيش في التدخل ، لتصورنا أن حسم العدالة للخلاف انتخابيا معناه انتصار جديد له في مواجهة الجيش ومزيد من القيود علي جنرالات الجيش نحو التدخل في الحياة السياسية .<BR>بل أن بعض المحليين الأتراك – مثل الصحفي المخضرم حسن سيمال – اعتبروا أن نتائج الانتخابات "رسالة من الشعب للجيش مضمونها هو أن يبتعد الجيش عن التدخل في الشؤون السياسية" ، فيما قال آخرون - سيردر تورغت رئيس تحرير "أكسام" - إن نتائج الانتخابات تؤكد أنه يجب على الجيش أن يوقف تدخله بشكل تام في الشأن السياسي.<BR>فالجيش التركي الذي قاد انقلابات عسكرية مباشرة عامي 1960 و 1980، وضغط على الحكومات لتقديم استقالتها في 1971 و 1997 في الحالات التي استشعر فيها خطر تقويض مبادئ العلمانية التركية ، تصاعدت ضغوطه علي حكومة العدالة الأخيرة عبر إصدار بيانات تنتقد تقدم العدالة بمرشح إسلامي للرئاسة هو عبد الله جول وزير الخارجية ، وتوقع البعض أن يقوم بانقلاب جديد .<BR>ولكن الجيش التركي أصبح يقف وحيدا ومكبلا أيضا الآن ليس فقط لفوز العدالة بالأغلبية ، ولكن بسبب سلسلة القوانين التي وضعها العدالة كي تنطبق المعايير الأوروبية علي تركيا للانضمام للاتحاد الأوروبي ، ولم يعد الجنرالات أصحاب أغلبية في النفوذ السياسي ، وحتى داخل "مجلس الأمن القومي" الذي كان تقليديا يتشكل من الجيش للضغط على الأحزاب وأصبح الآن له رئيس مدني وأغلبية مدنية أيضا .<BR>ويزيد من تكبيل دور الجيش في الضغط أو التدخل العسكري أن تدخله ينهي الحديث عن انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي ، كما أنه غير مستحب أمريكيا بسبب مساندة إدارة بوش للحزب كنموذج إسلامي معتدل يصلح للتطبيق عربيا . <BR>المتوقع بالتالي ألا تتحرك الدبابات في الشوارع كما كان يحدث سابقا رغم أن هذا ليس مستبعدا كليا ، وإنما سيكون هناك تحالف أكبر بين أنصار العلمانية في الجيش والقضاء ومؤسسة أتاتورك ، للسعي لمراقبة الحكومة والرئاسة معا بعدما آلا للإسلاميين ، واتخاذ إجراءات وتدابير سياسية وقضائية لردع أي خروج عن المبادئ العلمانية الكبرى ، مثل محاولة نقض إصلاحات أتاتورك الأساسية وتغيير الهوية العلمانية لتركيا أو استغلال الدين لقضايا عامة .<BR>والطريف هنا أن بعض الجنرالات المتقاعدين من الجيش التركي رصدت الصحف التركية ما قالت أنه محاولات منهم لإقناع القادة للحاليين بالجيش بتغيير مواقفهم المتشددة، وفق المعطيات الجديدة على الساحة التركية، باعتبار أن زمان الانقلابات العسكرية لم يعد مقبولا لدولة كبيرة مثل تركيا ، ولكن هذا لم يمنع أصوات أن تقول أن الجيش يظل هو الجيش لا يعترف بشيء يسمي ديمقراطية ، وإنما بعلمانية أتاتورك فقط وقد ينقلب جنرالاته علي الحكومة في أي وقت يرونه هم يهدد نفوذهم . <BR>ولنتذكر أن (رئيس الوزراء التركي) عدنان مندريس – أحد أوائل أصحاب الفكر المستقل عن أتاتورك - حصل على 50% من الأصوات في ثلاثة انتخابات تشريعية ومع ذلك ، انقلب عليه الجيش وتم إعدامه في عام 1961 !! .<BR><font color="#ff0000"> هل يسمح برئيس إسلامي لتركيا ؟</font><BR>والتحدي الثاني الذي سيواجه العدالة ، وللجيش دور كبير فيه ، هو انتخابات الرئاسة المقبلة بعدما اضطرت المؤسسة العلمانية ( الرئيس سيزار وقادة الجيش) لإجراء تعديل دستوري سيجري بمقتضاه انتخاب الرئيس بدلا من اختياره – وفق النظام القديم - بواسطة البرلمان عبر 3 جلسات تصويت بأصوات ( 367 مقعدا )، والطريف هنا أن تدخل الجيش والرئيس الذي أسفر عن العدول عن هذا النظام القديم أفاد حزب العدالة .<BR>فلو كان انتخاب الرئيس سيتم وفق النظام القديم للقي حزب العدالة – بعد تقلص مقاعده إلى 340 مقعداً – معاناة في توفير 27 مقعداً آخر لمرشحه الرئاسي ، أما الآن ، وفي ظل حصول الحزب شعبيا على 48% من الأصوات ، فلن يكون من الصعب عليه أن يحصل على أغلبية لمرشحه الرئاسي للجمهورية ، ما يعني أن عبد الله جول المرشح الرئاسي مرشح بقوه لدخول قصر الرئاسة التركي كأول رئيس ذي خلفيه إسلامية ومعه زوجته المحجبة !<BR><font color="#ff0000"> الإصلاحات الدستورية</font><BR>هذا الملف هو مربط الفرس ومنشأ الخلاف بين العدالة والجيش من جهة ، وسر قوة حزب العدالة لأن العدالة يراهن علي هذا الملف منذ وصوله للسلطة مستندا إلى أنه بدون هذه الإصلاحات - التي تقلص صلاحيات الجيش بشكل إلى – فلن تنضم تركيا للاتحاد الأوروبي ، ولهذا يتوقع أن يؤدي فوز العدالة الساحق الأخير لقوة دفع أخري لمزيد من الإصلاحات الدستورية والسياسية التي تعزز الحريات وترفع الظلم عن التعليم الديني وتلغي حظر الحجاب تدريجيا في المصالح الحكومية والمدارس والجامعات .<BR>حيث أنه من المتوقع إجراء تعديلات جوهرية في الدستور الذي عدل آخر مرة عام 1982 وتحتاج مواده إلى تعديل سريع، خصوصا في المادة الخاصة بانتخاب رئيس الجمهورية، الذي يجب أن يكون بالانتخاب المباشر من قبل الشعب ، إضافة لتعديلات أخرى تطالب بها قواعد حزب العدالة مرتبطة بوقف منع حظر الحجاب ، ووقف التفرقة العنصرية بين المدارس الحكومية والمدارس الثانوية الدينية ، لأن النظام الحالي يقيد دخول طلاب المدارس الدينية بدرجات أعلى من نظيرتها من المدارس المدنية، وهو تناقض دستوري يخالف المساواة .<BR>وفي حالة إقرار هذه التعديلات تدريجيا يتوقع أن تختفي قيود حالية مثل حظر الحجاب في المدارس والمصالح الحكومية ، والقيود علي المدارس الدينية التي كان تستهدف تصفيتها وتنفير الأتراك منها ، وكلها خطط هامة ولكن الإسلاميين الجدد في تركيا يسعون لحلها في إطار الحريات والتعديلات الدستورية بصورة عامة في تركيا دون التركيز عليها منفردة بما يعطي الفرصة للعلمانيين لفتح الباب لمعارك جديدة تحت شعارات حماية العلمانية ومنع تحول تركيا لدولة دينية .<BR><font color="#ff0000"> تركيا نموذج إسلامي للشرق الأوسط</font><BR>وتبقي النقطة الأهم فيما يخص فوز العدالة في انتخابات تركيا بنسبة كاسحة ، فهذا الفوز لا يعطي فقط البرهان علي أنه لا توجد مشكلة في السماح للتيارات الإسلامية بالتنافس في الانتخابات والاحتكام للديمقراطية ، وبالتالي فهي تعطي زخم كبير للحركات الإسلامية المعتدلة في العالم العربي ، وربما تكون لها بالتالي انعكاسات علي أول انتخابات عربية مقبلة في المغرب خصوصا أن هناك حزبا أخر للعدالة عربي يراهن عليه الكثيرون هناك ، ولكنه قد يغري أمريكا أكثر على التمسك به كنموذج علماني إسلامي للحكم .<BR>فمنذ سعي إدارة الرئيس الأمريكي بوش للترويج لنموذج "علماني إسلامي" (مودرن ) ، لمنطقة الشرق الأوسط ، وهناك محاولات لفرض هذا النموذج علي البلدان العربية وتشجيع لصورة "المسلم العلماني" و"الحزب المسلم العلماني" ، والحكومة العلمانية ذي التوجهات الإسلامية ، كنوع بديل للإسلاميين "الأصوليين" ،وساهم هذا في إحداث نوع من التقارب بين حكومة العدالة وواشنطن ، ورفع لأسهم تركيا في الشرق الأوسط .<BR>بل أن هناك أتراك بدءوا يتحدثون الآن عن أن الانضمام للاتحاد الأوروبي قد لا يكون مفيدا لتركيا في المحيط الأوروبي لأنها ستكون رقم صغير في هذا الاتحاد الأوروبي ، في حين أنها – وفق المنظور الأمريكي لها (شرق أوسطيا ) – ستكون رقما كبيرا ومؤثرا وذات نفوذ أكبر شرق أوسطيا يجعل حتى أوروبا تتعامل معها باحترام أكبر !<BR>ومع أن حزب العدالة يسعى بدوره للتحرك في إطار هذه العلمانية التركية ، ويؤكد احترامه لها ، فهو يركز علي أن العلمانية والأتاتوركية التي يؤمن بها هدفها هو التقدم والديمقراطية كما قال مؤسسها كمال أتاتورك ، وليس العداء للدين أو محاربة مظاهره ووأد الحريات بحجة منع مظاهر إسلامية تصب في خانة الحريات الشخصية كالحجاب أو التعليم الديني .<BR>وربما هنا تظهر حقيقة المشكلة فيما يخص الترويج الأمريكي للنموذج العلماني التركي ، فمن شارك في انتخابات تركيا هو حزب ذي توجه إسلامي (العدالة) ، ومن شارك أيضا في انتخابات فلسطين 2005 كان حزب إسلامي (حماس) ، ومع هذا تفرض الازدواجية الأمريكية تأييد النموذج الإسلامي التركي لأنه علماني ويخدم مصالحها ، أما النموذج الحمساوي فهو "أصولي" من وجهة نظرهم ، ويعادي المصالح الأمريكية في المنطقة !<BR><br>