
إذا ما أردنا أن نستعمل جملة واحدة نعبر بها عن أزمة البحارة البريطانيين الذين أسرتهم القوات الإيرانية قبل نحو أسبوعين من الآن و الذين أعلن الرئيس محمود أحمدي نجاد يوم الأربعاء الأخير، أنه قد أطلق سراحهم "هدية للشعب البريطاني بمناسبة المولد النبوي الشريف و ذكرى عروج السيد المسيح –عليه السلام-" بما أن المسيحيين عبر العالم يحتفلون حاليا بعيد الفصح المقدس عندهم، فإن أفضل ما قد نسوقه هنا قولنا باختصار: إنها أزمة بدأت غريبة و لف الغموض أيامها ثم انقشعت سحبها فجأة و بشكل غير متوقع أيضا.<BR> هذه الأزمة التي أسالت الكثير من الحبر و تدافعت التعليقات حولها حينما كانت قناة العالم الإخبارية الإيرانية، تعرض بين الفينة والأخرى صورا حصرية، تراوحت بين التشكيك في صحتها ووصلت حد استنكار عرضها استنادا إلى اتفاقية جنيف –التي يبدو و أنها لا تعني غير الجنود الغربيين- ما تزال لحد الساعة تمثل الخبر الأهم عبر العالم بالعودة إلى الإفراج غير المتوقع أولا ثم بالنظر أيضا إلى تذبذب الموقف البريطاني نفسه حيث أن أغلب المتابعين أجمعوا على أن الخاسر الأكبر في كل فصول الأزمة، هو (رئيس الوزراء) توني بلير على أساس أن هذا الأخير فشل في التعامل مع الأزمة بشكل واضح إلى درجة أنه سمع بخبر الإفراج، كغيره من الناس، عبر محطات التلفزيون و وكالات الأنباء.<BR>الواقع أن أهم ما في القضية برمتها صار موضوع الإفراج عينه إذ يكفي وقوعه بهذا الشكل غير المتوقع، حتى تثور كل مشاعر التوجس لدى المحللين الغربيين و لا مناص هنا من التذكير، أن الدبلوماسية لا تشتمل في قاموسها كلمات على وزن: الإحسان، الإنسانية أو حتى الهدية.<BR>في هذا الإطار، أوردت صحيفة الغارديان اللندنية بعد ساعات قليلة من تأكد خبر انتهاء الأزمة، مقالة ارتأت أن يكون عنوانها صريحا بهذا الشكل: "دبلوماسية أم صفقة؟" و مثلما هو واضح فإن هذا التحليل الذي شارك فيه مراسلا الجريدة من العاصمة العراقية بغداد بالإضافة إلى مراسلها في طهران، قالت فيه بعد أن تساءلت عن هذا الترابط الغريب بين قرار الإفراج من جهة، و بين الإفراج عن الدبلوماسي الإيراني في العراق جلال شرفي ثم إعلان أحد الجنرالات الأميركيين بعد ذلك بما يفيد بأنه قد يسمح لإيران بزيارة دبلوماسييها الخمسة الذي اعتقلهم الجيش الأميركي في أربيل الكردية من جهة ثانية: "رغم أن وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري نفى لنا بالأمس وقوع أي اتصال بين الجانبين أدى إلى قرار الرئيس نجاد، إلا أنه من الواضح أن هذا التزامن غريب بمعنى أن الإيرانيين استعملوا سياسة "المقايضة" التي تعني الإفراج عن البحارة في مقابل ضمانات إفراج عن دبلوماسييها".<BR>هذا التفسير الذي ساقته الغارديان و إن كان يبدو منطقيا إلا أنه من ناحية أخرى أيضا لا يبرر ما تأكد من مقربي بلير الذين أجمعوا على أن هذا الأخير تفاجأ و هو ما ظهر عليه بشكل جلي خلال ذلك المؤتمر الصحفي المقتضب الذي عقده بعيد ذلك برفقة وزيرة خارجيته مارغريت بيكيت أمام مكتبه في 10 داونينغ ستريت بلندن، حيث بدا المسئولان البريطانيان مضطربان و غير مستعدين للإجابة على كل الأسئلة.<BR>أما الصحيفة اللندنية الأخرى، الديلي تلغراف فلقد أوردت بخلاف الأولى، مقالة ضمنتها كل تلك الأسئلة التي بدأ الشارع البريطاني يطرحها، حيث كتب و تحت عنوان: "الأسئلة التي تتعين على قائد البحرية الإجابة عنها حاليا"، مراسلها للشئون الدفاعية، توماس هاردينغ أرفقها بخارطة تفصيلية للمنطقة التي وقع فيها الأسر وفقا للروايتين الإيرانية و البريطانية ثم انتقد التعاطي الرسمي مع القضية و فشل القوات البحرية في تأمين سلامة أفرادها قبل أن يقول: "لقد وقعت الحادثة في المنطقة الحدودية المتنازع عليها بين كل من إيران و العراق و التي كانت السبب الذي لأجله اندلعت في العام 1980، حرب أدت إلى مقتل ما لا يقل عن المليون إنسان، وإذا ما كانت البحرية تجادل هنا أنها قد قامت بست و ستين عملية مشابهة سابقا دونما الحاجة إلى غطاء خلفي إلا أن هذا لا يبرر أن المهمة السابعة والستين، شابها الحظ العاثر خصوصا و أن المنطقة برمتها غير مستقرة زيادة على أن الأجواء، أصلا مضطربة منذ اعتقال الدبلوماسيين الإيرانيين الخمسة". <BR> في مقابل هذا، أوردت جريدة الإندبندنت، اللندنية هي الأخرى، تحليلا كتبه صحفيها أدريان هاميلتون قال فيه أن إيران هي التي خرجت منتصرة من أزمة البحارة المأسورين لديها قبل أن يضيف: ".. و لكن، ألا يحمل هذا إشارة إلى أن إيران إنما هي بصدد تغيير طريقة تعاملها مع الغرب؟" بعد أن علق قائلا: "إنها نهاية حفظت الشرف أو على الأقل، منعت إهدار الشرف قبل أن يضطر بلير إلى الاعتراف أن أولئك البحارة كانوا داخل المياه الإقليمية الإيرانية" وهذا لا ينفي أيضا أن: "الإيرانيون و رئيسهم المتشدد أحمدي نجاد، بلا شك فرحون حاليا لأنهم استطاعوا أن يثيروا الليث و يمسكوا بذنبه قبل أن يطلقوه بكرم" بمعنى أنهم: "راضون عن سياسة الذراع الحديدية التي مارستها بلادهم".<BR>على الجانب الآخر من الأطلسي، لم تختلف الصحف الأميركية عامة على الجزم بأن قرار طهران إنما هو حركة دبلوماسية محسوبة حيث كتبت صحيفة العاصمة الفيدرالية، الواشنطن بوست تقول: "حتى و لو ظهر الخوف على ملامح المسئولين البريطانيين حينما سمعوا يوم الأربعاء الماضي بأن الرئيس الإيراني المتطرف، سوف يعقد مؤتمرا صحفيا إلا أن مخاوفهم تبددت حينما أعلن هذا الأخير قرار بلاده إطلاق سراح البحارة الخمس عشرة بعدما مر على أسرهم ما يقرب من أسبوعين" ثم أضافت في هذا التحليل الذي كتبه روبن رايت: "إن الحكومة الإيرانية تعتقد أنه بهذا الشكل قد سجلت نقاطا لصالحها أقلها مثلا أنها أثبتت للأمم المتحدة و الغرب عموما أنه من الممكن التوصل إلى حل بخصوص ملفها النووي باستعمال الوسائل الدبلوماسية" و لكن هذا ليس كل ما في الأمر إذ أنه و على حسب ذات المحلل دوما فإن إيران: "أرادت بهذه العملية إرسال رسالة بالغة الوضوح نحو الأميركيين و البريطانيين تحديدا مفادها أنها قادرة في حال تعرضها إلى الهجوم، أن تلحق الضرر هي الأخرى بقوات الدولتين هناك بمعنى أنها تعرف مكامن الضعف في المنطقة و تحسن التصرف و الحركة في الوقت المناسب".<BR>قرينتها، النيويورك تايمز لن تبتعد كثيرا عن هذا التفسير و أوردت هي الأخرى بقلم واحد من بين كبار محرريها و هو ديفيد سانجر، الذي كتب يقول: "لقد صرح ديك تشيني، نائب الرئيس بوش، الذي هو أكثر أعضاء الإدارة الأميركية انتقادا لإيران أمام روش ليمباو في برنامج الحواري، أنه لا أحد في وسعه تخيل مبلغ خطورة إيران حينما تنسحب أميركا من العراق" و بما أن الربط بين الموضوعين هنا يبدو غريبا إلا أنه من ناحية أخرى أيضا ينطلق على أساس أن الأزمة برمتها في نظر هذا الصحفي، إنما تهدف إلى توجيه رسائل صوب الأميركيين و حلفائهم البريطانيين بالتوازي مع التصعيد الذي يشهده الملف النووي الإيراني أصلا.<BR>أما في الصحف الإسرائيلية التي هي عادة أكثر المهتمين بحراك العلاقات بين طهران و الغرب، فإن جريدة يديعوت أحرونوت منحت الكاتب و الخبير الإسرائيلي المتخصص في شؤون الدفاع والعسكر، أوري أورباخ، حيزا ملأه بتحليل تحت عنوان: "انتصار في الحرب على الشر" تطرق فيه إلى أنه ليس من حق إيران أن تحتجز البحارة البريطانيين حتى و لو قاموا فعلا بانتهاك مياهها الإقليمية" و إذا ما لاحظتم الغرابة هنا فإن هذا الخبير يفسر معتقده انطلاقا من أن: "النظام العالمي الجديد بالنسبة إلى جورج بوش، توني بلير و بنيامين نتنياهو زعيم المعارضة عندنا، يقسم العالم إلى دول ديمقراطية موقفها صائب دوما في حين أن باقي الدول غير الديمقراطية، هي في كل الأحوال مخطئة و لا يحق لها الحديث عن السيادة" لأن: "مفهوم السيادة لا يحظى بالأولوية لدى النظام الدكتاتوري الحاكم في إيران"، مثلما ختم معلقا.<BR>هذا المنطق غير المسبوق إذن، هو موضة التفكير المؤسسي الديمقراطي بمعنى أنه يحق لك فقط أن تمتلك حقوقا حينما تكون نظام حكم مستنسخ عن النماذج البشرية التي استشهد بها هذا الكاتب و لا يجوز لك التمتع بأية حصانة و لا مناعة دفاعية حتى لو كان هدف البحارة هو "التجسس" بكل بساطة مثلما أظهر ذلك، تحقيق أجرته القناة الإخبارية فوكس نيوز حيث أوردت هذه المحطة على لسان قائد المجموعة المحتجزة، النقيب كريس آير الذي أعلن لها وبصريح العبارة، أن مهمة دوريته كانت: "جمع معلومات استخباراتية عن الأنشطة الإيرانية المجاورة"‼<BR><BR><br>