الكلونيالية: وجه آخر من الامبريالية
3 ربيع الأول 1428

فجأة، بدأت الصحف الأمريكية تهتم بمستقبل العلاقات الفرنسية الأمريكية التي انهارت في السنوات الماضية، كما قالت الواشنطن بوست في إحدى افتتاحياتها، و الحال أن الانهيار كان نتيجة " المواقف الفرنسية" من الصراع الذي خاضته الولايات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، هذا ما يحاولون إقناعنا به، بقولهم أن فرنسا ضحت "بعلاقاتها الرائعة" مع الأمريكيين لأجل عيون العرب، و لأجل عيون القضايا العربية العادلة التي صارت تبيعها الأنظمة العربية نفسها دون خوف من الله، و على مرأى و مسمع الجميع. صحف فرنسية تركز اليوم أيضا على العلاقات الأمريكية الفرنسية بعبارة "لم نخسر القضايا العادلة" كأنها لتوهم العرب أن فرنسا لم تخسر، لأنها وقفت مع قضاياهم العادلة، في الوقت الذي تشهد فيه فرنسا أكبر تجمعات اليهود على أرضها، و في الوقت الذي تنحاز الصحف و الإعلام الفرنسي علانية مع الصهاينة، في وجود أكثر الحركيات الإعلامية و الفكرية اليهودية الأقرب إلى التيار الصهيوني حرة تماما على الأراضي الفرنسية، و في الوقت أيضا الذي مارست فيه "فرنسا الحريات و القضايا العادلة" كل أنواع القمع ضد الجاليات الإسلامية، و ضد الأفارقة منذ سنوات طويلة.. مع ذلك، استطاعت فرنسا أن تقنع الكثيرين أنها "خسرت" الأمريكيين بسبب مواقفها القريبة إلى القضايا العربية، مثلما حاولت أن تمرر إلى الأمريكيين أنفسهم أنها في النهاية دولة كولونيالية لا يمكن أن تتجزأ من خطط النهب الذي تمارسها الإدارة الأمريكية بشكل أحادي لم يسبق له مثيل. <BR><font color="#ff0000"> الكلونيالية جزء من الامبريالية! </font><BR>من الناحية التاريخية تمرجح الصراع الفرنسي الأمريكي بين الشد و الجذب، و لعل الوصف التاريخي الفرنسي للجنرال شارل ديغول بأنه "أشجع" من قصف باب الحلف الأطلسي في أكبر صدام مع الأمريكيين وقتها، بحيث كانت ضغينة ديغول كبيرة و قديمة بالخصوص إزاء كندي الذي اعترف سنوات من قبل انسحاب فرنسا من الحلف الأطلسي، أن من الجزائريين تحقيق مصيرهم، و هي عبارة أغضبت الفرنسيين جدا، و نطق بها كندي أساسا لإغضاب الفرنسيين أكثر من إرضاء الجزائريين الذين كانوا وقتها في صراع مرير ضد عصابة كلونيالية بشعة. حكاية " الانسحاب الفرنسي من الحلف الأطلسي عام 1966" يرددها إلى اليوم بعض الديغوليين الحالمين بعودة " المجد الديغولي " الباهت"، في الوقت ينشد فيه الفرنسيون دائما أنشودة الحرية و القضايا المصيرية العادلة، بينما فرنسا تحتل نصف إفريقيا و تعيث فيها فسادا فكريا و سياسيا وعسكريا. التناقضات ليس وليدة الراهن، و لا وليدة الصراع الذي فجرته الإدارة الأمريكية منذ وصول النخبة الفاسدة من المحافظين الجدد إلى الحكم لإصلاح "الديمقراطية" الأمريكية و نقلها إلى العالم بأسره، كانت وقتها تتأسس في فرنسا قوة مماثلة، ظاهرها الوقوف في وجه الإمبريالية و باطنها إحداث صياغة أخرى للوجود الفرنسي كأكبر قوة كولونيالية في التاريخ الحديث، و هي بالتحديد أحلام سابقة راودت الجنرال شارل ديغول و أراد تلميذه جاك شيراك أن يتبناها بشكل مختلف، و لكنه فشل في بلورتها في ظروف كانت فيها العديد من الدول تطالب باستقلاليتها الكاملة، بمن فيها الدول التي استكانت بشكل كامل للهيمنة الفرنسية مثل ساحل العاج الذي انتفض شعبه سنة 2002 و سنة 2003 رفضا للهيمنة الفرنسية و للفساد القائم في ساحل العاج تحت المحمية الفرنسية التي يلجأ إليها السياسيين المفسدين في البلاد. و حتى دول الشمال الإفريقي التي كانت ذات يوم مستعمرات فرنسية لم تكن بمعزل عن ذلك التغيير، حين بدأت دول مثل الجزائر ة المغرب تلتفت إلى الأمريكيين في مجالات كانت تعتبرها فرنسا جزء من هبتها و سيادتها في تلك المناطق.. و أي سيادة!!<BR><font color="#ff0000"> بعض من كثير! </font><BR>المواقف الفرنسية في الحرب على العراق معروفة، و العديد من المحللين السياسيين الفرنسيين كتبوا عن " المطامع الفرنسية" و عن صدمة "شيراك" بالدور الثانوي الذي أعطاه بوش للفرنسيين في حال مشاركتهم في الحرب على العراق (هذا شيء معروف) والأهم أن شيراك ظهر فجأة بطلا في نظر العديد من العرب. تم استقباله في الجزائر (التي تعد أكثر الدول ضحية للكلونيالية الفرنسية الإجرامية!) استقبل شيراك استقبال الأبطال، و تم إخراج الشعب إلى الشوارع لتحيته و الترحيب به في المغرب أيضا و تونس، كما لو أن شيراك فتح القدس! بينما هو نفسه شيراك الذي في حكمه تم تجاوز العديد من القوانين الإنسانية ضد الجاليات المغاربية التي كان يقذف بأفرادها من القطارات السريعة في أكبر عمليات التمييز العنصري، و تحت توقيع الحزب الوطني الفرنسي و تحت سماء الشعارات "المدافعة عن العدالة الاجتماعية"، بحيث أن الحزب الوطني ليس حزبا قادما من كوكب المريخ، و ليست حثالاته أكثر من الأقدام السوداء التي عاثت فسادا في دول كثيرة و المستفيدة من الدور الفرنسي "الحامي للثقافات الإنسانية"، بيد أنه لم يتم اتخاذ أدنى إجراء لحماية المهاجرين على الأراضي الفرنسية، و لا لحماية معتقداتهم، و ثقافاتهم، في الوقت الذي تم إقامة كل ما يلزم لأجل منح لليهود الحقوق المدنية قبل الإنسانية، و الحق في الصلاة و في التواجد. ففي فرنسا، أغلب اليهود يغيبون عن مدارسهم و أعمالهم صباح السبت، و لا أحد يسأل أين يختفون صباح كل سبت، باعتبار أن على المسلمين فقط أن يبرروا إن هم غابوا يوم الجمعة، و إلا سيتم اتخاذ إجراءات تدخل في سياق "تجاوز قوانين الجمهورية الخامسة" التي عقابها الطرد من المدرسة أو العمل و من البلاد على حد سواء! الغريب في الأمر أن الصحف الأمريكية ذكرت " الانهيار الحاصل في العلاقات الأمريكية الفرنسية" في الوقت الذي ذكرت فيه صحيفة نيويوركز الأمريكية العيوب الفرنسية في تعاطيها مع السياسة الخارجية، بيد أن عبارة عيوب تعني في النهاية " النفاق" الذي من خلاله يتم تداول العبارات الكبيرة التي لا يعنيها أغلب الناطقين باسمها، كالعدالة، و الحقوق المدنية و الإنسانية، الخ. و الحال أن نهاية عهدة الرئيس الحالي جاك شيراك، خلقت العديد من الأسئلة التي يطرحها الواقع داخل و خارج فرنسا، عن كيفية عودة فرنسا إلى العالم بقوتها "التاريخية" المعروفة، دون أن تكون ضمن أوروبا العجوز! بمعنى أبسط من سيكون الرئيس القادم؟ نظرة بسيطة يمكن أن تعطي الأفضلية ( و لو قليلا) لنيكولا ساركوزي، بالرغم من ( الفضائح التي تتفجر من وقت لآخر ضده، و التي يعتبرها بعض المحللين أشبه بالضربات التي إن لم تقتل فهي تقوي!) و بغض النظر عن كل ما يقال في بقية المرشحين، ليس لشيء سوى لأن ساركوزي من أكثر المقربين إلى أمريكا، و لأنه يسعى منذ عام 2001 إلى إخراج النسخة الفرنسية من المحافظين الجدد، بحيث أن العديد من المقربين من ساركوزي من المثقفين يتبنون سياسة التغيير الشامل، و الذي يحاول إعادة فرنسا إلى سكة المثل.. و هي (للصدفة) العبارة التي رددها بولفوويتز ( رأس الحربة للمحافظين الجدد و الذي يشغل اليوم منصب رئيس صندوق النقد الدولي) للحديث عن أمريكا المثل! الذين يتكلمون عن ساركوزي كمرشح جيد هم الذين يحاولون خلق حالة من الخوف من الإسلام في فرنسا، و مفكرين و إعلاميين مثل " ألان فنكيلكروت" و "برنارد هنري ليفي" الذين يصنعون اليوم هالة الإعلام الفرنسي، يتكلمون عن التغيير الذي يجب أن يكون، و الذي يجب أن يقطع الطريق أمام الإسلام ( الذي يعتبرونه دين عنف و إرهاب و لا مجال للتعايش معه، بل يجب قلعه من الجذور) ، و هي رؤى صنعت في لغتهم كلمات مكررة مثل "الفوبيا الإسلامية" من منظور الشارع الفرنسي. لقد ارتكب شيراك الكثير من الأخطاء السياسية و لهذا سيترك رحيله فراغا كبيرا لن يكون سده صعبا بالخصوص أن الميل العام في فرنسا يبدو منحازا إلى أمريكا أكثر مما هو منحازا إلى الاتحاد الأوروبي، على أساس ما يسمونها " الصداقة التاريخية الفرنسية الأمريكية" التي يجب أن ترمم و تصلح، بدليل أن أكبر فضيحة تفجرت في فرنسا عن حيازة أحد المحافظين الجدد الأمريكيين على باسبور فرنسي و الذي أسال الكثير من الحبر في الصحف اليسارية، تم تطويقه بشكل كامل، باعتبار أن " القانون لا يمنع أن يحظى أمريكيا على جواز سفر فرنسي و العكس صحيح" ! لكن لم تكن في الحقيقة قضية جواز سفر فرنسي فقط، بل بشخصية من المحافظين الجدد، كان يتنقل من و إلى فرنسا لأسباب سياسية محضة، و ليجتمع مع شخصيات تريد أن تؤسس تيارا محافظا مشابها في فرنسا! ( أنظر صحيفة لبراسيون بتاريخ 09 يناير من السنة الميلادية الحالية. <BR><br>