
ما قلناه من قبل (كآراء و ملاحظات صحفية) صار حقيقة، و حقيقة مؤكدة أيضا، منذ صار الحديث عن الرئيس المحتمل لفرنسا الجديدة على صدر أكبر العناوين الصحفية الفرنسية والبريطانية والأمريكية أيضا. فرنسا الجمهورية السادسة المقبلة تعني كل أنواع التغيير الجذري الذي سيبدأ بإحداث القطيعة الكاملة مع كل " الأخطاء" التي يقال أن الرئيس الديغولي جاك شيراك ارتكبها. و تعني التقارب الذي يدينه الغرب اليوم، و المقصود به التقارب مع الدول العربية والمواقف الفرنسية (التي نعرف جيدا أسبابها ) ظاهرها المواقف الإنسانية، و باطنها التحديات للامبريالية بموجب ما كانت فرنسا تريده كبديل للتعاون مع الإمبريالية الأمريكية، كما حدث مع العراق عندما أيدت فرنسا ثم انسحبت من حلف" المؤدين" و شنت حربا إعلامية و كلامية ضد الحرب على العراق في الوقت الذي تؤكد فيه التقارير على أن فرنسا كانت سترسل 12 ألف جندي للمشاركة في الحرب، لولا أن الإدارة الأمريكية المسعورة ارتأت أن تأخذ لنفسها العراق و تترك "للحلاليف!" (أي الحلفاء) مجال الاستثمار في المراحيض العراقية (و هي التعابير بالحرف الواحد التي استعملتها الصحف الفرنسية الموالية للشانزلزيه و خائضة خلالها حملة الإدانة بقيادة شيراك نفسه ضد الحرب على العراق) و التي انضمت إليها بسرعة أسماء ثقافية و سياسية كبيرة نذكر أهمها وزير الدفاع الأسبق "شيفنمان" الذي كان صديقا شخصيا للرئيس العراقي المخلوع (و المشنوق) صدام حسين. لم يكن ثمة أي شيء لوجه الله، و لم يكن ثمة أي مبدأ للدفاع عن المبدأ، و لا عن القيم الإنسانية التي يقال أن الثورة الفرنسية حققتها، بدليل أن فرنسا التي احتلت النصف الأكبر من إفريقيا هي نفسها التي مارست في ظل "نظام الثورة ومبادئ الثورة" كل أنواع الإسقاطات ضد دول العالم الثالث، بمن فيهم الذين يقيمون على أرضها. كان ذلك لب المشاكل الحقيقية التي تتخبط فيها فرنسا منذ سنوات، ليس لأنها مشاكل حقيقية تهدد أمنها كما يقال، بل لأنها التناقضات التي ربما اكتشفها الاتحاد الأوروبي مؤخرا، في عبارة قالها "برلسكوني" (فرنسا عقرب يعيش محتفظا بجذوره الكلونيالية)، و إن كانت هذه العبارة درة فعل برلسكوني المتحمس للتحالف مع الأمريكيين و الرافض للمواقف الفرنسية إزاء ذلك التحالف نفسه، إلا أن عبارته كانت قريبة إلى الحقيقة، و إلى المنطق، بأن فرنسا من الصعب أن تعيش خارج تاريخها الكولونيالي، و فكرها الكولونيالي المشبع بالنرجسية و بالاحتلال ضد دول العالم الثالث و إن كان ذلك الاحتلال "احتلالا أبيض" على رأي أحدهم! المشكلة أن فرنسا اليوم تمضي نحو التغيير الحقيقي، الذي بدأ في الحقيقة منذ سنوات، و سيصبح اليوم واضحا للعيان، بموجبه ستصبح فرنسا كولونيالية عن تفاخر بعد أن كانت تنفي عن نفسها هذه التهمة/ الحقيقة! <BR><font color="#0000FF">ساركوزي.. التغيير نحو الكارثة؟</font><BR>من أصل يهودي بولوني أو بولندي، عايش والداه ما يسمى في لغة الصهاينة بالمحرقة النازية التي يقال أنها أبادت اليهود، و هاجروا من أوروبا الشرقية نحو سويسرا و منها إلى فرنسا التي احتفلت منذ أيام بذكرى التعاطف الفرنسي مع اليهود الهاربين من المحرقة النازية بحضور حشد كبير من المسؤولين الفرنسيين على رأسهم ساركوزي نفسه الذي يعد واحدا من المعنيين بالأمر، و المرشحة المنافسة له و التي أرادت أن تنال بدورها البركة اليهودية قبل الخوض في الحملة الرئاسية الشديدة على الطريقة الفرنسية! ساركوزي لا ينسى أصله، و لا ينسى أن "الأخطاء" التي ارتكبها الديغوليين ساهمت في " التواجد غير الشرعي للعديد من العرب والمسلمين و الأفارقة على الأراضي الفرنسية من دون أي أوراق رسمية أو صبغة شرعية ) و هو كلامه. و لا ينسى أيضا أن "فرنسا ارتكبت خطأ فادحا حين وقفت ضد الأمريكيين في الحرب على العراق، لأنها كانت فرصة تاريخية بالنسبة لفرنسا لتستعيد مكانتها القوية في أوروبا) و هذا كلامه أيضا.. الأخطاء كثيرة في نظر ساركوزي الذي من موظف تافه في إحدى المؤسسات الرسمية تحول بسرعة خيالية و في ظروف غامضة إلى شخصية سياسية مهمة.. إلى مرشح أكيد و منافس " شديد" للانتخابات القادمة. من شخص بائس في بداياته إلى أكثر الشخصيات الفرنسية جدالا اليوم. هو الذي استطاع أن يفرض نفسه بموجب القرارات التي هزت فرنسا في السنوات القليلة الماضية أولها قرار منع الرموز الدينية من المؤسسات الرسمية و كان المقصود بها الحجاب أولا و أخيرا باعتبار أن الرموز الدينية التي يمارسها أصحابها في أكثر من 30 مدرسة و معهد يهودي بقيت على حالها لأنها مدارس تخضع للنظام اليهودي و ليس للنظام الفرنسي (مع أنها على الأرض الفرنسية) وهو التناقض الذي تعامل من خلاله ساركوزي حين كان يتعلق الأمر بالحجاب الذي اعتبره منافيا للقانون و لا يجب التمسك به، ومن تتمسك بحجابها عليها ألا تخرج من بيتها! في ظل سنوات قصيرة نجح ساركوزي ( و نعترف له بذلك ) في إثارة الكثير من الجدال و النزاعات العنصرية، ففي زمن ظهوره ظهرت أنواع كثيرة من سياسة الكيل بالمكيالين التي تجيدها فرنسا و تختفي وراءها للحديث عن الديمقراطيات و عن الحريات المدنية.. ساركوزي يعيش ذلك الوسط المتناقض و يعي جيدا أن التغيير المطلوب هو ذاته التي جعله الأقرب إلى المحافظين الجدد التابعين لإدارة الحرب الأمريكية. الصحف الأمريكية منذ عام و هي تركز على شخصيته الكازرماتية، و تراه الأقرب إلى الإدارة الأمريكية سواء كانت إدارة جمهورية أو ديمقراطية باعتبار أن المسار الأمريكي الخارجي لن يتغير، و لن تتغير اللوائح الحربية التي شنها الجمهوريون باسم الحرب على الإرهاب، و باعتبار أن المصالح الأمريكية في أوروبا حقيقية و كبيرة، و تحتاج إلى تقارب حقيقي وشامل مع دول قوية مثل ألمانيا و فرنسا المتهمة بأنها عجوز أوروبا في عهد جاك شيراك! ما يهمنا في الحقيقة هو أن فرنسا الجديدة ستكون ساركوزية في حال فوز نيكولا ساركوزي بالانتخابات الرئاسية و وصوله إلى الشانزلزيه كرئيس للجمهورية السادسة و هذا يعني أنه سينفذ كل التعهدات التي أعلنها من قبل والتي تبدأ ب: تصفية التواجد العربي و الإسلامي و الإفريقي في فرنسا (الذي ليس له حق في البقاء!) بما ينعني إحداث حالة من التصفيات السياسية للعديد من المقيمين في فرنسا بالخصوص من الدول المناوئة للامبريالية الأمريكية و للصهيونية الإجرامية. لقد بدأت حملة التطهير في فرنسا بطرد عدد كبير من المهاجرين العرب من وظائفهم التي مارسوها طوال عشرات السنين، و لعل ما يسمى بقضية المطار أكبر فضيحة للكيل بمكيالين، بعد أن تم طرد أكثر من 111 موظف من أصل عربي من العمل في المطارات الفرنسية بحجة الخوف من العمليات الإرهابية التي "قد ينفذها" العرب و المسلمين ضد المسافرين! مما جعل عضو عمالي في البرلمان ينتقد العملية بعبارة ساخرة " لو كان ثمة تهديد حقيقي فلن يحتاجوا إلى المطارات لتنفيذها!" <BR><font color="#0000FF">ساركوزي الذي يكره العرب ويحتاجهم! </font><BR>مشكلة ساركوزي أنه أول "فرنسي" انتقد الوجود العربي في فرنسا، و انتقد الإسلام في فرنسا، و وصفه بأنه يهدد الجمهورية، ومشكلته أنه أول من تكلم ضد الشباب العربي المهاجر بعبارة "الأوباش" التي كادت تؤدي إلى حرب حقيقية داخل فرنسا نفسها، مشكلته أيضا أنه يحتاج إلى العرب، فهو يضمن الأصوات اليهودية باعتباره واحد منهم، و لكنه يدرك أن الجالية المغاربية و الإفريقية في فرنسا تصنع لوحدها جبهة قوية لا يمكن التفريط بها، و لهذا كانت زيارته الغريبة للعديد من الدول المغاربية (الجزائر/ المغرب/ تونس) مثيرة للكثير من الأسئلة، خاصة أنه أكثر الشخصيات انتقادا في العديد من الدول المغاربية على الصعيد الشعبي بالخصوص، ولكنه تحول فجأة إلى مرشح معقول، حتى في الصحف الفرنسية التي صارت تعتبره اليوم شخصية قوية يمكن أن تمنح للفرنسيين حياة مغايرة قريبة إلى الحلم الأوروبي بصيغة القوة و ليس الضعف، و هي العبارة التي تتهم تحت السطور الرئيس الحالي جاك شيراك بأنه كان ضعيفا في مواقفه القريبة إلى الدول العربية، والمتسامحة مع قضايا العالم الثالث! مع أن الحقيقة التي سيكشف التاريخ عنها تقول أن شيراك و ديغول من نفس الطينة التي أسست الكلونيالية الجديدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أيام كان الجنرال الفرنسي شارل ديغول ينتقد أمريكا لأنها لا تسمح لفرنسا بالتحرك، و لأن أمريكا أيام حكم كنيدي اعتبرت أن للجزائر حق في الاستقلال، ليس تعاطفا مع الشعب الجزائري الذي صنع ثورته عن قناعة، بل انتقاما من الفرنسيين الذين يظلون العدو التاريخي اللدود لهم.. لكن اليوم، ثمة فرصة كبيرة للتغيير اسمها ساركوزي، واسمها المرشحة الثانية التي أيضا تبدو قريبة إلى المصالحة مع الأمريكيين، و بالتالي مع كل القرارات التي إلى الآن رفضت فرنسا الدخول فيها، لأن دخول الحمام ليس كالخروج منه، و لأن المتغيرات الدولية جعلت اليوم أمريكا في مستنقع كبير اسمه "المقاومة" التي تتنامى في العديد من الدول، بالخصوص في أمريكا اللاتينية و في آسيا، و عليه إن غرقت أمريكا في المستنقع فيجب أن تغرق الجمهورية السادسة و الاتحاد الأوروبي الذي لن يقاوم طول العمر الضغوطات الأطلنطية عليه.. لأن الخارطة السياسية الفرنسية تعد بالكثير من المفاجآت و من الفجائع أيضا، باعتبار أن الضحية الجاهزة اليوم هي العرب و المسلمين و الأفارقة بشكل خاص وخاص جدا في الجمهورية التي سيكون اسمها: الجمهورية السادسة!<BR><br>