مستقبل العلاقات المصرية الأمريكية بين التأبيد والتوريث
3 رمضان 1427

تشير دراسة العلاقات المصرية الأمريكية منذ أن بدأت تلك العلاقات رسميا بفتح قنصلية للولايات المتحدة في عام 1832 وحتى الآن أن هذه العلاقات تأرجحت بين التعاون والصراع عبر المراحل الزمنية المختلفة، وقد وصلت التفاعلات المصرية الأمريكية قمتها الصراعية عام 1967 حين اتخذت مصر قرارا بقطع العلاقات السياسية مع الولايات المتحدة، أما قمتها التعاونية فقد شهدتها السنوات الأخيرة من حكم السادات وخصوصا بعد أن وافق من حيث المبدأ على منح الولايات المتحدة قاعدة عسكرية في رأس بنّاس وبدأ يُفصح علنا عن رغبته في أن تصبح مصر عضوا في حلف شمال الأطلنطي.<BR>لقد عادت الولايات المتحدة إلى مصر والعالم العربي في مرحلة السبعينيات بصورة مفاجئة بعد أن استطاعت الديبلوماسية الأمريكية أثناء فترة الحرب الباردة احتواء النفوذ السوفياتي وإبعاده من المنطقة وإذا كانت الولايات المتحدة قد نجحت في الاحتفاظ بعلاقات اقتصادية وتجارية مزدهرة حتى مع الدول العربية الثورية مثل الجزائر وسوريا فإن نجاحها كان أبعد بكل المقاييس بالنسبة لتطور علاقاتها بمصر، فبينما لم يكن ثمة علاقات ديبلوماسية بين البلدين حتى عام 1970 تم استئناف هذه العلاقات في مارس 1974 وخلال سنوات قليلة استطاعت مصر أن تطور علاقات خاصة مع الولايات المتحدة ومنذ عام 1978 أصبحت الولايات المتحدة بمثابة شريك كامل في العلاقات المصرية الـ"إسرائيلية" والمصدر الرئيس للأسلحة وأكبر مانح للمساعدات الاقتصادية لمصر الأمر الذي زاد من حدة الانتقادات الداخلية والعربية التي تعرض لها النظام المصري من جراء ذلك إلى حد وصفه بالعمالة للولايات المتحدة، رغم أن إحدى الدراسات التي أجريت حول العلاقات المصرية الأمريكية خلال الثمانينيات أظهرت أن هناك درجة يعتد بها من الاستقلالية أظهرها نظام مبارك في مواجهة الولايات المتحدة إذ وضعت دراسة كريستوفر شوميكر وجون سبانير مصر في فئة العميل – المسيطر أو العميل – المركز حيث يتمتع العميل بدرجة ملموسة من الاستقلالية والقدرة على المناورة في إدارة سياسته الخارجية<BR>لكن رغم ذلك فقد كان الخطأ الاستراتيجي على صعيد العلاقات الأمريكية المصرية - منذ أن أعلن السادات أن 99% من أوراق اللعبة في يد أمريكا- أن تم النظر لتلك العلاقات ليس من المنظور الثنائي بين الدولتين بل من منظور علاقة ثلاثي (الولايات المتحدة- "إسرائيل"- مصر) بكل ما تحمله تلك الكلمة من معنى إذ برزت "إسرائيل" كطرف ثالث ربما كان هو المحدد الرئيس في مستوى العلاقات بين الدولتين، ولقد أعطى هذا الوضع غير المرغوب فيه ثقلا ل"إسرائيل" على حساب مصر التي سرعان ما أدركت أنها الطرف الأضعف في تلك العلاقة الثلاثية بالغة الخطورة على مواقفها <BR>ولعل ذلك أيضا ما خفض كثيرا من سقف الدور الإقليمي المصري الذي تراوح على مدار العقود الماضية بين الوهج والانزواء وإن كان يمكن القول أن ذلك الدور قد دخل مرحلة الأفول منذ فترة ليست بالبعيدة <BR>وكما يرى كثير من المحللين الاستراتيجيين أن أساس اهتمام الإدارة الأمريكية بدور مصر مرتكز على دورها الإقليمي فخلال سبعينيات القرن الماضي لعبت الإدارة المصرية دور الحليف الثاني للولايات المتحدة في المنطقة بعد ""إسرائيل"" وفي الثمانينيات طور نظام مبارك علاقاته ب"إسرائيل" بحيث لعبت دور المدخل الذي ولجت من خلاله المنطقة، وفي التسعينيات مثلت مصر حجر الزاوية فيما أطلق عليه وقتها عملية التسوية الشاملة سواء على المستوى الثنائي أو الإقليمي أو الدولي <BR>وفي المرحلة الحالية حيث تمر العلاقات المصرية الأمريكية بمنعطف ربما يحدد مستقبل تلك العلاقات بين البلدين في الفترة المقبلة حيث تقف <font color="#0000FF">مصر المرتحلة</font> على أعتاب <font color="#0000FF">مصر القادمة</font> وحيث هذه العلاقات ربما كانت هي المحدد الأساس في سؤال الوقت في مصر وهو كيف سيكون شكل تلك العلاقات في حالتي التأبيد أو التوريث، ومن خلال طبيعة هذه المرحلة ومعالم التطور فيها سيتحدد شكل العلاقة الذي ينشده الطرفان أو بالأحرى الطور الذي سيكون محصلة لضغط الطرف الأقوى ومقاومة الطرف الأضعف وتوترات الظروف الداخلية والخارجية لكلا الطرفين ومتغيرات البيئة الإقليمية، حيث تتحدد العلاقات السياسية بين أي دولتين من حيث مداها أو عمقها أو فاعليتها بالعديد من العوامل المرتبطة بطبيعة كل من الطرفين والمصالح والأوضاع الإقليمية والدولية المحيطة وكذلك الوضع التاريخي الذي تتفاعل فيه تلك العلاقات، ذلك أن السياسة الخارجية لدولة ما تعد انعكاسا لسمات وخصائص وطموحات شعب هذه الدولة وفقا لإدراك السلطة السياسية الحاكمة لما تمثله هذه الخصائص والطموحات، ورغم ذلك فنادرا ما يتطابق طموح الشعوب مع طموح السلطات الحاكمة ونخبها التي غالبا ما تبحث عن مصالحها الذاتية. <BR>وفي تلك المرحلة الحرجة من تاريخ الدولة المصرية يحاول كل من نظامي "التأبيد" و"التوريث" الوصول إلى نقطة توازن حقيقية في السياسة الخارجية لمصر بعيدا عن الوقوع تحت تأثير قوة خارجية واحدة؛ خاصة وان العلاقات المصرية الأمريكية تنطوي بطبيعتها علي مزيج من التفاعلات التعاونية والصراعية في نفس الوقت. ومن ثم يمكن القول أنه إذا تجاوزت العلاقات الصراعية بين مصر والولايات المتحدة نقطة معينة أو مستوي معين فإن من شأن ذلك دفع الولايات المتحدة إلى توجيه مواردها وإمكاناتها الهائلة ضد مصر وتكتيل قوي دولية قد لا يكون للدولة المصرية قدرة علي مواجهتها ومن ثم يصبح أمنها - سواء كان أمن النظام أو أمن المجتمع- عرضة للخطر وفي الوقت نفسه فان الافتراض العكسي صحيح أيضا وهو انه إذا تجاوزت العلاقات التعاونية حدا أو مستوي معينا بين مصر والولايات المتحدة فقد يكون ثمن هذا التعاون "الزائد عن حده الطبيعي" تحجيم قدرات مصر ودورها كقوة إقليمية؛ وبالتالي يصبح هذا التعاون في نهاية الأمر عبئا على استقلال مصر وإرادتها الذاتية وقد يعرض أمنها القومي للخطر، ومن ثم احتمال أن يتحول شكل العلاقة بين الدولتين من نموذج العميل -المسيطر إلى نموذج العميل- الخاضع <BR>لقد رصد المراقبون عددا من الشواهد، التي تشير إلى أن غيوما قد اكتنفت العلاقات المصرية الأمريكية في الفترة الأخيرة، كما زادت حدة الانتقادات التي وجهتها الولايات المتحدة إلى مصر، بصدد حقوق الإنسان ومسيرة الإصلاح السياسي، وما يعترضها من عقبات، ومن ناحية أخري بدأت حدة استقطاب الخطاب السياسي في مصر بين خيارين أحلاهما مر: بين الاستبداد الداخلي والتدخل الخارجي، وفي حين يلقي النظام المصري باللائمة على من يستقوون بالخارج، ينعي هؤلاء هذا الاستبداد الجالب للاحتلال <BR>إن البحث عن النمط الثابت الذي يحكم العلاقات الأمريكية المصرية يدلنا أن هناك مرحلة حرجة في تلك العلاقات وهي تلك النقطة التي تتوافق فيها مصلحة مصر القومية ـ افتراضاً ـ مع مصلحة الولايات المتحدة التي هي عناصرها: نشر نمط الحياة الأمريكي ومحاربة ما يسمى بالإرهاب وحماية "إسرائيل"، بالإضافة إلى مصالحها في ثروات المنطقة النفطية والممرات المائية والبرية بما يتوافق مع مصالح إمبراطورية عظمى إن لم تكن وحيدة في عالمنا المعاصر، ومن الواضح أن تلك الأجندة من المصالح هي خصم من الرصيد المصري سواء على المستوى الداخلي أو الإقليمي <BR>إن الوصول إلى تلك المرحلة الحرجة مع توافر الشروط الداخلية الخارجية هو إيذان باستمرار العلاقة على وضعها الحالي وما لا يرضي الطرفين معا، لكن في حده الأدنى إن استمرار هذا الوضع يعني نجاح سيناريو التوريث وإمكانية أن يتم بالصورة التي تشير عديد من الظواهر أنه قد خطط له، أما إذا تخلفت تلك الشروط أو وجدت عوامل أقوى من توافرها فأحسب أن ذلك السيناريو لن يكتب له النجاح مع أخذ تداعيات البيئة الداخلية في الاعتبار وقبولها أو تسليمها بالخسارة في تلك الجولة من معارك الصراع بين النظام السياسي المصري وشعبه <BR>لقد تراوحت العلاقات بين البلدين في الفترة الماضية بين مد وجزر، واستحالت إلى مناورات متصلة، ومحاولات اتفاق متبادلة بين الطرفين، لتحقيق مصالح كل منهما علي حساب الأخر، لكن دائما النصر حليف من يملك أكثر الورقات الفاعلة في معادلات الصراع وأحسب أن تلك الرغبة المحمومة في التوريث هي أضعف حلقات الطرف المصري في علاقاته مع الولايات المتحدة، ومن ثم فاستمرار العلاقات الحالية بين مصر والولايات المتحدة معناه أن تعيد مصر ترتيب أولوياتها "الوطنية" بما يتوافق مع الترتيب الأمريكي للأولويات في منطقة الشرق الأوسط <BR>وفي هذا الإطار ينبغي أن تفهم الجولات المتوالية لنظام التوريث تحت مسمى حملات طرق الأبواب التي لم تكن تهدف إلا لتمرير مشروعات المستقبل القادم تحت أي مسمى حيث ترتب العديد من الملفات التي تتعلق بشكل أساسي بالأجندة الأمريكية في المنطقة، وحيث يتم الضغط على الموقف المصري على مستويين متوازين، <font color="#0000FF">المستوى الأول: </font> هو دور النظام المصري في الملفات الخارجية مثل العراق وتطورات القضية الفلسطينية وملف الإرهاب والنووي الإيراني وموقفه من الممارسات الأمريكية في ذلك، <font color="#0000FF">أما المحور الثاني</font> فهو الشأن الداخلي ويبدأ بمناقشة أوضاع الديمقراطية وحقوق الإنسان في مصر، يليها الملف الاقتصادي وتقييم الخطوات المصرية على طريق اقتصاديات السوق الحر، ويشمل أيضا مناقشة الخطوات المرتقبة المشروطة مثل اتفاقية التجارة الحرة، وحقيبة المعونة الأمريكية التي تعد من أهم الملفات المطروحة للمناقشة خاصة بعد تعرضها لانتكاسة في الفترة الأخيرة للمحاولات المستمرة للتلويح بقطعها أو تخفيضها <BR>إن هناك مخاوف حقيقة تواجه نظام التوريث المصري وقد تدفعه لمزيد من التنازلات، ولعل أدق وصف لمستقبل العلاقات المصرية الأمريكية ما جاء في افتتاحية صحيفة واشنطن بوست في عددها الصادر في يوم 17 يناير 2006: إنَّ واشنطن ترى أن الوقت حان للبحث عن نظامِ حكمٍ أقدرَ على وضع مصر على أعتاب ديمقراطية حقيقية، وأنها رفضت الاستجابة لطلبٍ تقدَّمت به الحكومة المصرية لزيادة المعونات الأمريكية لهذا العام بضعة ملايين إضافية من الدولارات (مكافأةً لها على الدور الذي لعبته في إنجاح خطة الانسحاب الـ"إسرائيلي" الأحادي الجانب من قطاع غزة)، وأنها اتخذت قرارًا بتجميد المفاوضات الخاصة بإقامة منطقة للتجارة الحرة بين البلدين، بل وذهبت إلى حد التأكيد أن الكونجرس سيعيد النظر في المساعدات العسكرية المقدمة لمصر منذ معاهدات (كامب ديفيد) والبالغ مقدارها 1.8 بليون دولار، ما لم يقم الرئيس حسني مبارك باتخاذ عدد من الخطوات خلال هذا العام. مثل إلغاء حال الطوارئ، والتصريح لتيارات الوسط الراغبة في تأسيس أحزابها وتمكينها من ممارسة أنشطتها بحرية، وإلغاء الرقابة على الصحف والقيود المكبلة لحرية حركة الجماعات المستقلة في المجتمع المدني، وإطلاق سراح أيمن نور وتمكينه من نشر وتطبيق أفكاره وبرامجه الإصلاحية.<BR>وفيما يتعلق بالمسألة العراقية من المعروف أن الولايات المتحدة تريد من مصر أن تسهم مع دول عربية وإسلاميةٍ أخرى في تشكيل قواتٍ تعتقد أنها يمكن أن تخفِّف الضغط عليها وتسهم في تحقيق الاستقرار والأمن وتمهِّد الطريق لنجاح "العملية السياسية"، كما تراها هي وكما حددتها بنفسها في العراق.<BR>وفيما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني، من الواضح أن الولايات المتحدة تريد من مصر أن تتخذ موقفًا علنيًّا صريحًا يُدين سعي إيران للحصول على السلاح النووي<BR>أما فيما يتعلق بسوريا ولبنان وفلسطين، فبينما تريد الإدارة الأمريكية من مصر أن تواصل ضغوطها على النظام السوري وتأييد موقف الحكومة اللبنانية الضاغط لنزع سلاح حزب الله والمنظمات <BR>الفلسطينية في لبنان تنفيذًا للقرار 1559، والضغط على حماس والجهاد وبقية فصائل المقاومة <BR>المسلحة لاستمرار الهدنة من جانب واحدٍ وعدم استفزاز "إسرائيل". <BR><br>