توجه تركيا نحو الشرق الأوسط.. الأدوار والنتائج
10 شعبان 1427

مما لا شك فيه أن البيئة الإقليمية للدول (بما تشمله من بعد جغرافي، وعرقي، وتاريخي..) تلعب دوراً بارزاً في تشكيل مسار سياستها الخارجية، وتعد تركيا من أكثر النماذج التي تشكل بيئتها الإقليمية محدداً واضحا على سياستها الخارجية لما تكشفه هذه البيئة من مجالات واسعة للحركة والتأثير المتبادل. فنجد أن القوقاز يحدها من الشمال، والبلقان يحدها من الغرب، وآسيا الوسطى تحدها من الشرق، أما الشرق الأوسط فإنه إلى الجنوب منها، و تأتي هذه العوامل الجيوبوليتكية في مقدمة المؤثرات على سياسة تركيا الخارجية.<BR> أما على الصعيد "الشرق أوسطي" فقد اتسم الدور التركي بوجه عام بعدم القدرة على فرض إرادته أو المشاركة في صنع القرارات الخاصة بالمنطقة، ، حيث لم تلق المحاولات التركية الرامية إلى الخروج من هذا الوضع خلال العقود المنصرمة أي تجاوب مباشر مع الدول المجاورة لا بل، أثار أحيانا ردود فعل سلبية بسبب فقدان الثقة المتبادلة في ضوء ثقل وطأة العامل التاريخي. وعلى الجانب الآخر كانت تركيا تتقرب إلى المنطقة عند حدوث تناقضات إقليمية تمس المصالح الوطنية للطرفين أو عندما يقع تصدعاً مهماً بدا سطحيا ومؤقتاً في علاقاتهما مع الغرب خصوصاً أن أهمية تركيا أخذت تتحدد في ضوء اعتبارات الأمن الأوروبي بما أضفى عليها عدم القدرة على تكييف سياسات إيجابية نحو دول "الشرق الأوسط" بما يجعلها "دولة شرق أوسطية"، ولذا غدت تبحث عن إطار إقليمي تشارك في علاقاته.<BR>وفي ظل التغيرات العميقة في النظام الدولي بانتهاء الحرب الباردة وانهيار المنظومة الاشتراكية في نهاية عقد الثمانينات، والتطورات اللاحقة في منطقة الشرق الأوسط، بما أفرزته حرب الخليج الثانية وتطورات عملية التسوية السلمية للصراع العربي "الإسرائيلي" مع بدايات عقد التسعينات، وحرب احتلال العراق في الألفية الجديدة، وجدت السياسة التركية نفسها في قلب التطورات "الشرق أوسطية" ومعنية مباشرة بما يجري إلى الجنوب من حدودها، مما توجب عليها تكييف سياستها الخارجية بصورة تلائم الواقع الدولي والإقليمي معاً وذلك بهدف تفعيل موقعها في النظام الإقليمي الشرق أوسطي الجديد المزمع إقامته.<BR>نجد أن تركيا لها منظورها الخاص التي تنطلق منه لتحديد مصلحتها باعتبارها دولة إقليمية مجاورة تتمتع بموقع جغرافي هام في السياسة الدولية، أضفى عليها حضوراً وقدرة على التأثير في منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً وان تركيا تحتل المرتبة 34 في العالم من حيث المساحة والمرتبة 19 في العالم من حيث عدد السكان وتتمتع بقوة عسكرية ضخمة، بالإضافة إلى عضويتها في حلف شمال الأطلسي وتكمن الأهمية أيضاً، من أن الدور الذي تؤديه تركيا في المنطقة يأتي تحقيقاً لمصالحها وزيادة لنفوذها/ ووزنها الإقليمي إلى جانب مصالح خارجية تتعلق بالتحالف الغربي خصوصاً وأن هذا الدور استمرت تركيا في ممارسته في مدة الحرب الباردة والتي شهدت تطوراً ملحوظاً في علاقات تركيا مع المنطقة، فضلاً عن أن هذا الدور يتم عبر عدة مسالك لعل من أبرزها ارتباطه بقضايا المياه والأقليات وإمكانية تحويل المنطقة إلى نظام إقليمي شرق أوسطي.<BR>بحيث أصبح هناك علاقة واضحة بين طبيعة الدور التركي في منطقة "الشرق الأوسط" وبين التوجه الغربي الطابع لسياستها، دون إغفال أن أي تغيّر يطرأ على أشخاص صناّع القرار في تركيا لا يؤثر في ثبات مصالحها الوطنية و هذا يعبر عن رؤية ثابتة وواضحة في تقرير المصالح القومية التركية وفي العمل على تحقيقها بصرف النظر عن أي تغيرات في أشخاص صانعي القرار،والتي قد يتبعها تغير في ترتيب الأولويات والمصالح أو آليات تحقيقها ولكن دون تغير جوهري في تقدير هذه المصالح. ويتجسد عنصر الاستمرار في السياسية التركية عبر التزامها عموما في علاقتها مع المنطقة بعدد من الثوابت والتي يصعب تجاوزها دون المساس بمصالح أساسية للدولة التركية، و تتبلور أهم هذه الثوابت في: استمرار النظام العلماني والعلاقة الخاصة مع الولايات المتحدة، والتوجه نحو الغرب عموماً. ونفهم من ذلك أنه كلما تعقدت الأوضاع الاقتصادية داخل تركيا، زاد حماسها في التوجه نحو سياسة إقليمية نشطة في "الشرق الأوسط"، وأن التوصل إلى تسوية سلمية للصراع العربي "الإسرائيلي" سيزيد من فرص دورها، باعتبار أن الدور الإقليمي التركي الآني يستند بالضرورة على استمرار البيئة الدولية القائمة على هيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولي. وهذا يعني بأن أي تغير في هذه المعطيات الدولية من شأنه أن يقلب المعادلات والتوازنات السياسية القائمة، وبما يؤسس وقائع ومعادلات جديدة على أساس البيئة الناشئة قد يحجم مدى هذا الدور. ومن جهة أخرى تقدم علاقات تركيا مع الغرب بعض الدلالات بالنسبة للدور التركي وقدرته على المناورة ، والذي يؤكد على ضرورة التقاء المصالح بين تركيا والغرب ، حيث تشمل مصالح تركيا منه على الأمن القومي والمعونة الاقتصادية بينما تتركز مصالح الغرب على أن تشكل تركيا مجالا حيويا لحماية مصالحه في المنطقة. وتدرك السياسة التركية أن مصداقية مكانتها الإقليمية لن تكتمل سواء في الدائرة الغربية أو الدائرة الشرق أوسطية إلا بالقدر الذي تحقق فيه التوازن من خلال تطوير العلاقات مع المنطقة في المجالات السياسية والاقتصادية باعتبارها أحد مكوناتها السياسية، دون أن تفقد توجهها الغربي المميز في الجوانب السياسية والاجتماعية بما يوفر لها مجال للحركة أو النفوذ. وفي هذا الإطار فإن أقصى ما يلائم مصلحة تركيا الإقليمية هو سياسة مستقلة تهدف إلى تطوير العلاقات الثقافية مع المنطقة والتقليل من تدخل الولايات المتحدة في هذه العلاقات. إلا أن تبعية تركيا للعالم الغربي يفرض عليها التأثر بعملية توزيع الأدوار/الوظائف التي تحددها الاستراتيجية الأمريكية<BR>ويعد التقدم في عملية التسوية السلمية للصراع العربي "الإسرائيلي" المحرك الأساسي لمشروع "الشرق أوسطي" -الذي لا ينبغي المبالغة بحجم النجاحات التي حققها هذا المشروع على الرغم من صعوبة التسرع باعتبار أن المشروع "الشرق أوسطي" قد دخل طور الاحتضار- باعتباره مجرد مشروع سياسي جاء في لحظة دولية –إقليمية انتقالية وفي إطار موازين قوى معين، ودون أن يأخذ بعين الاعتبار التحولات والتطورات في المواقف والمصالح وموازين القوى لمختلف الأطراف الإقليميين و الدوليين و هذا يوضح حجم التناقضات التي تكتنفه. و من جهة ثانية يواكب هذه العملية استعدادات لبناء ترتيبات اقتصادية إقليمية "شرق أوسطية" جديدة تشكل عاملا مساندا بالضرورة للدور التركي بغرض تعميق العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية و "إسرائيل" باعتبارهما أكبر قوتين دولية وشرق أوسطية دافعتين نحو هذه الترتيبات عبر إقامة مشروعات التعاون الإقليمي . دون أن نغفل استعداد بعض الدول العربية للدخول في مشروعات تعاون ثنائية وإقليمية مع هاتين الدولتين حتى قبل الانتهاء من هذه التسوية.<BR><br>