منظمات المجتمع المدني.. والدور الاستخباري
29 محرم 1427

إن منظمات المجتمع المدني التي أخذت تعلن عن نفسها في الآونة الأخيرة، ليست جديدة علينا، فروادها الأوائل في بلادنا يعودون إلى ما قبل منتصف القرن الماضي، ولكن الجديد فيها أنها بدأت تفرخ، وتركز في ظاهر نشاطها على حقوق الإنسان، والمطالب الاجتماعية التي لا يختلف عليها اثنان في غالب الأحيان. لكننا لم نر لمعظمها إن لم نقل كلها أي ثقل حقيقي أو تأثير ملموس، خصوصاً عندما تداس حقوق الإنسان وتهدد حرياته ويسلب من أبسط حقوقه في الحياة، لاسيما إذا اقتضى الأمر أن تحسم موقفها بقوة تجاه أي قضية لها علاقة بممارسات هذه الدولة أو ذاك المعسكر!<BR>عدا ذلك، يلاحظ المتتبع لمثل هذا النشاط "المدني" أن بعض المنظمات والجمعيات التي تمارسه تعود في منشئها إلى أحد مصدرين، فإما أن تكون داخلية وأهلية، ليس لها أي صلة ظاهرية بأحد في الخارج، وإما أن تكون مرتبطة بعلاقة ما، أو شكل من أشكال"التعاون" مع الخارج.<BR>ولما كان لكل منظمة أو جمعية أو ما شابه التزامات ومتطلبات ونفقات لا سبيل للتحرك من دونها، فإن من البديهي التساؤل عن مصادر تمويل كل منها، إذ لا يعقل أن تنشأ كلها وتستمر وتمارس نشاطها العلني و"المعارض" أحيانا، اعتمادا على تبرعات المواطنين المحدودة الحجم والإمكانات!<BR>بالإضافة لذلك، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن حكوماتنا في معظمها لا تولي ناحية النشاط المدني أية أهمية - اللهم إلا إذا مس بها، لأنه في الأساس ليس من أولياتها تعزيز روح المجتمع الأهلي أو المدني. وإذا كانت هذه الحكومات لا تولي مؤسسات البحث والدراسة، ولا تجود عليها بجزء يسير مما تخصصه لميزانيات شرطتها وأجهزة مخابراتها المتعددة الفروع والأنشطة، فإن من الطبيعي عندها أن تنتهز "جهات ما" هذه الفرصة وتقوم بسد ثغرة التقصير الرسمي. وهذه الجهات ليست محلية بالتأكيد، وإنما خارجية - أجنبية، وإلا لقامت الجهات المحلية نفسها بمهام من تريد دعمه.<BR><font color="#FF0000">جواسيس مقنعين! </font><BR>وعليه، فلا بد من الملاحظة هنا أنه مثلما لجمعياتنا المدنية أحد منشأين، فإن للمصادر الأجنبية أيضا أحد منشأين، أو سبيلين أساسيين، إما الدعم الرسمي الحكومي المدموغ حكما بالتبعية، حتى ولو لم تكن صيغته تنم عن ذلك، أو دعم منظمات المجتمع المدني المشابهة والمؤسسات الكبيرة المتخصصة في شتى مجالات البحث "والاستقصاء" والنواحي الإنسانية والاجتماعية.. الخ، وهو الأرجح قبولا ومشروعية ظاهرية أمام الناس، والأكثر "شفافية" لدخول عقل الإنسان المسلم بدل الدعم الرسمي، أو طريق التعبئة المباشرة عن طريق الصحف الرسمية والإذاعات والأبحاث الآتية من الخارج، وأخيرا الفضائيات. ثم - وهو الأهم والأخطر - فإن هذه الطريقة من التعاون "المدني" بين المنظمات الأهلية الأجنبية والمحلية يطلق يد الجمعيات التي أخذت تفرخ سريعا في بلادنا في مجالات "المعرفة" وتنظيم العلاقات وإجراء الاستطلاعات، وبث الأفكار أو التوجهات الخارجية على أنها محلية، وصولا إلى التجسس في كثير من الأحيان، وهو ما رأينا أحد صوره في مصر قبل سنوات عندما تم إلقاء القبض على سعد الدين إبراهيم، الذي يدير "مركزا للأبحاث" بتهمة التخابر مع "السي.آي.إيه"، وتلقي الدعم المالي المشبوه من الولايات المتحدة.<BR>ورغم ثبوت التهمة عليه، وصدور حكم قضائي بسجنه، إلا أن أحدا لا ينسى ماذا حصل أثناء ذلك، أي بين اتهامه وصدور الحكم عليه، وأي ضجة دولية منظمة ثارت لاستنكار ما تعرض له من "ظلم"، مع أن السلطات المصرية التي اتهمته وحاكمته صديقة الولايات المتحدة ووثيقة الصلة بالمخابرات الأميركية، لكن ذلك لم يغفر لها "جريمتها"، فانهالت عليها ضربات الدولة الأكبر التي وصلت إلى درجة التهديد بوقف تقديم مساعدة القمح المقررة لمصر، وإلى اقتطاع جزء من المساعدات المالية التي تقدم للجمعيات المصرية الوثيقة الصلة بها، يوازي حصة مؤسسة سعد الدين إبراهيم، وحجز هذا الجزء في حساب خاص لصالحها بالولايات المتحدة حفاظاً على حق هذا "الباحث" حتى لا تصادره السلطات المصرية!<BR><font color="#FF0000">استباحة البلاد </font><BR>كل ذلك حصل أمام سمع وبصر "جمعيات المجتمع المدني" الأخرى في مصر التي لم تفعل شيئا على الصعيد العملي المؤثر لإثبات وطنيتها على الأقل، ولم يتعد موقفها الاعتراض الشفهي الخجول، وسبب ذلك معروف ومقروء، ذلك لأن مثل هذه الجمعيات لم تقم أساسا لمهمة التغيير الحقيقي، أو خدمة قضايا شعبها الأكثر إلحاحا، ولم يجر دعمها أصلاً على هذا الأساس، فمنظمات الخارج وإن كانت مستقلة داخل بلدانها، إلا أن نشاطها لا يخلو من تنسيق مع أجهزة بلادها. لهذا فإن أقصى ما يمكن أن تفعله إزاء أي خرق للمبادئ التي تنادي بها شفاهة هو "التطييب" من خاطرنا بالكلام المعسول، أو التنديد اللفظي لمدة زمنية قصيرة بهدف امتصاص الغضب الشعبي لا أكثر ولا أقل، ثم تُطوى الصفحة وتصبح الجريمة كأن لم تكن، سواء كانت القضية تتعلق بخيانة وطن، أو خطف شخص، أو سجن صحافي، أو قتل معارض في الخارج.. أو ما شابه!<BR>لهذا السبب لم نسمع يوما بجمعية أو مؤسسة أن اتخذت موقفا في العظم، أو فرضت على الدول ما تقتضيه بنود العدالة والقوانين المحلية والدولية. ومع أن هذه الحالة يدركها سائر الناس، كما تدركها الحكومات أكثر، إلا أن كلها - وليس معظمها في هذه الحالة - يرتع ويمرح على هواه، وتقوم الدول باستقبال الداعمين من المنظمات الأم في الخارج وتسمح لها بفتح مكاتب وفروع والقيام بنشاطات وأبحاث، وتنظيم ما أمكن من الجمعيات وحتى الأحزاب والروابط واللجان وما شابه لخدمة أهدافها هي تحت غطاء الأهداف المحلية!<BR>وليس ذلك جديداً أيضاً، رغم ازدياد وتيرة هذه الظاهرة في السنوات الأخيرة، فقد رأينا قديما أمثلة لا حصر لها لمثل هذه المؤسسات القادمة من الخارج تحت لافتات الثقافة والبحوث ونشر المعرفة لعل أبرزها المركز الثقافي البريطاني، ومعهد "غوته" الألماني، ومعهد شملان الذي كان قائماً على أرض واسعة بالقرب من بيروت، كما لو كان مركزاً "للسي.آي.إيه" أو البنتاغون! ولا ننسى بالطبع المؤسسات الأميركية الأكثر من الهم على القلب مثل مراكز الأبحاث التابعة لكل من معهد واشنطن ومؤسسة فولبرايت، وجامعتي هارفرد وجورج تاون ...إلخ، إضافة إلى المؤسسات الفرنسية كالمركز الوطني العلمي للأبحاث، ومركز جورج بومبيدو، ومعهد العالم العربي، بامتدادات وعلاقات كل منها. فضلا عن مؤسسة كونراد اديناور الألمانية، وفافو النرويجية، إن لم نقل جمعيات "أطباء بلا حدود" و"مراسلون بلا حدود"، و"كتّاب بلا حدود"، ومنظمة العفو الدولية "أمنستي" بكل فروعها "العفوية" المحلية وباقي القائمة لا حدود لها!<BR><font color="#FF0000">نشاطات مشبوهة </font><BR>وإذا كان نشاط "المركز الثقافي البريطاني" في بلادنا مكشوفاً مثل نار على علم، فإن معهد شملان الذي كان يمارس دوراً سرياً رهيباً في تعبئة وتثقيف الناس، وإعادة قولبة عقولهم تحت لافتة العلم والمعرفة لا يقل عن ذلك إن لم يكن أكثر، فهو الذي خرّج الآلاف من العرب والأجانب منذ تأسيسه وحتى إغلاق أبوابه في أواخر التسعينات، وكلهم أصحاب عقول وكفاءات ثقافية وعلمية متميزة، درست لغتنا كما "درست" أوضاعنا، وتدربت على الغوص في أعماقنا، وبنت علاقات مع مثقفينا ونخبنا الرسمية والأهلية، ومع بعض قيادات أحزابنا من شتى الاتجاهات وحركاتنا العمالية والطالبية. وكان لخريجي هذا المعهد نصيب وافر في المواقع الرسمية والدبلوماسية والمخابراتية المؤثرة داخل بلدانهم وخارجها، فتصوروا أي دور قاموا به انطلاقا من التربة التي تشبعوا منها!<BR>والحال نفسه ينطبق أيضا على معهد "غوته" الألماني، الذي قد لا يعلم القارئ أنه بدأ بممارسة مهامه في السودان أواسط القرن الماضي بهدف تعليم السودانيين اللغة الألمانية، مع أن ألمانيا نفسها لم تكن قد خرجت بعد من ويلات الحرب العالمية الثانية، ودون السؤال عن هذا الحرص الألماني على تعليم لغتهم في مناطق تعتمد الإنجليزية إلى جانب العربية، وليس لأهلها اهتمامات ملحوظة باللغات الأخرى الأقل حيوية، نقول أن الأيام قد كشفت عن السبب وأجابت على السؤال حين ألقي القبض في عهد الجنرال إبراهيم عبود على أحد مسؤولي المعهد، ويدعى شتاينر وهو يجوب مناطق الجنوب السوداني، يوزع "المساعدات"، وينظم الجمعيات، ويمد بعضها بالسلاح!<BR>حصل ذلك قبل نصف قرن من الآن تقريبا، وتحديدا بين العامين 1959 – 1964م، ولما جرى توجيه تهمة التجسس لشتاينر، وقدم للقضاء بناء عليها، صدر الحكم بإعدامه بعد اعترافه بما وجه إليه من اتهامات، لكن سيلاً من الضغوط والوساطات انهالت يومها على حكومة عبود، أدت في النهاية إلى العفو عنه وإطلاق سراحه!<BR>غني عن الذكر أن مثل هذه الجمعيات والمؤسسات الأجنبية لا يستثنى بلد عربي واحد من "اهتماماتها" في هذه الأيام، وهي كلها - ومهما رفعت من شعارات وأهداف خيرية إنسانية وبحثية تصب في المحصلة النهائية لخدمة أجهزة مخابراتية أو حركات تنصيرية، لهذا يجري تركيز اهتمامها على دعم نواحي البحث الثقافي والاقتصادي والبيئي والتنموي، كما تركز على "الدراسات" المتعلقة بالأحزاب والتوجهات السياسية، والعادات الاجتماعية، وصولا إلى الجغرافيا والآثار وحتى الأمراض! لكنها أمام كل ذلك لا تعطي أهمية ولا تقدّم دعما يساعد على تطوير المعرفة العلمية والتكنولوجية. خصوصا في مجال الفضاء، والذرة، وعلم الاتصالات والحاسب الآلي.. وما شابه!<BR>وليس سرا بالطبع أن مثل هذه الجمعية وامتداداتها المحلية المختلفة الأنشطة والاختصاصات تتواجد بكثافة في بلد مثل لبنان، حيث لا يمكن إحصاء كل أشكالها السرية والعلنية، فمنها ما هو إنساني ومنها ما هو ثقافي، ورياضي ومنها ما هو مذهبي وطائفي وماسوني وما بين بين، كجمعيات "الليونز" وأخواتها، كما توجد بكثافة في مصر والأردن وفلسطين، وتونس والمغرب، ولا تنعدم في الجزائر - أرض المليون شهيد، بل على العكس يتواجد بعضها على شكل جمعيات دينية تنصيرية تجوب الجبال والصحراء داعية الناس إلى تغيير دينهم مستغلة وجود الكثيرين منهم تحت خطر الفقر. حتى موريتانيا والسودان أخذت تعشش بها هذه الجمعيات بشكل لافت للانتباه أكثر من السابق، أما ليبيا فجمعياتها لها "نكهة خاصة" وطعم فريد، فمعظمها مرتبط بالسلطة وأجهزتها لكنه مغطى بعلاقات مع جمعيات أخرى تشوبها الشبهة كغيرها، وبصيغ تعاون مع جهات أجنبية تتأثر بتوجهاتها ولا تؤثر فيها. <BR><font color="#FF0000">فلسطين المستهدفة </font><BR>خلاصة القول أن منظمات المجتمع المدني التي تفترش أرض هذا العالم الإسلامي ليست مستقلة وإن ادعت ذلك، ولا تملك مقومات وجودها من مداخيل شعبية محلية كما تردد، وهي ليست أكثر من واجهات لفظية، لا يعنيها إن تعرض الوطن للاعتداء، أو سقط تحت قبضة الاحتلال، وإن عبثت فيه الفتن الطائفية، طالما أنها مطلقة اليدين في عملية صنع عقل مسلم جديد بتوليفه لا علاقة لها بالأساس، تهدف إلى انتشاله من تربته الأصلية وزرعه في تربة أخرى مناقضة وحتى معادية. ولا يغير من هذه الحقيقة المرة احتمال وجود بضع منظمات تغرد بصوت مبحوح خارج هذا السرب المربوط بالخارج، حتى لا نكاد نسمعها.<BR>وإلا، أين هي المنظمات الإنسانية والحقوقية، العربية والأجنبية، من جرائم قتل الإنسان المسلم وهدر كرامته ومصادرة حريته وسرقة مقدساته، التي نشاهد صورها اليومية في فلسطين والعراق وغيرهما؟<BR>أين منظمة "فافو" النرويجية التي "رق" قلبها على الشعب الفلسطيني فقامت بعمليات بحث دقيقة لكل جوانب حياته، وجيشت عددا كبيرا من أصحاب الكفاءات الفلسطينية لهذا الغرض، ثم اتضح لاحقا أنهم كانوا اللبنة الأساسية في مباحثات مدريد، والمباحثات المتعددة الأطراف؟<BR>أين معهد "واشنطن" القلق باستمرار على مسيرة الاستسلام "الشاملة"، الذي اتضح أيضاً أنه هو الذي شكل صيغة مدريد وأعد مسودة أوراقها التي قدمت للمفاوضين الفلسطينيين، طالما أن المفاوضين الصهاينة هم جزء أساسي في هيكلية معهد واشنطن نفسه، وهم الذين وضعوا خطوطها العريضة والرفيعة معاً؟!<BR><BR><br>