رؤية استراتيجية في قضية دارفور
18 جمادى الثانية 1425

معركة دارفور من الزاوية الاستراتيجية <BR>صراع إسلامي –غربي.. وخلاف أمريكي أوروبي ..واتفاقية "فاشودة" جديدة متوقعة <BR><BR><BR>عاشت دارفور لعشرات السنين في نزاعات قبلية مسلحة نشطة، أو كانت هي الأنشط في هذا النوع من النزاعات في السودان بحكم طبيعة الموقع الجغرافي والنشاط الاقتصادي الرعوي حتى أننا اختصت بنحو 85 % من هذه النوعية من النزاعات التي لم يتم تسيسها و لم تصبح نزاعات وصراعات سياسية رغم استمرارها لعشرات السنوات وكان الأغلب والإعلام أمريكية يجرى التعامل مع هذه النزاعات بمنطق الحلول القبلية ، بما في ذلك دور الدولة السودانية نفسه الدولي كان يأخذ بهذه الطريقة للحلول منذ بداية حكم الإنقاذ.. <BR><BR>لكن هذه النزاعات وبشكل مباغت خلال مراحل المفاوضات بين الحكومة والسودانية وتمرد الجنوب انقلبت إلى نزاع ذي طبيعة سياسية ..كما تشكلت جماعات وحركات ترفع شعارات سياسية تصل حد إعلان العمل العسكري من أجل تحرير السودان -كما هو حال تمرد الجنوب-وسرعان ما فتحت لها مكاتب في العواصم الأوروبية ..<BR><BR>وبعدها ما أخذت تتصاعد وتيرة الاتهامات الأمريكية والأوروبية مضافاً إليها منظمة الأمم المتحدة –وليس شخص كوفي عنان فقط -ضد الحكومة السودانية ...بالصمت أو عدم التحرك .. وفى أكثر الأحيان بدعم ميليشيا "الجنجويد" من أصل عربي لارتكاب جرائم تطهير عرقي في دارفور ..<BR><BR>ووصل الأمر إلى درجة أن منسق العمليات الإنسانية للأمم المتحدة في السودان "موكايش كابيلا بأنها " وصف ما يجرى هناك بأنه أكبر كارثة عالمية على الصعيد الإنساني وعلى صعيد حقوق الإنسان " ثم ذكر بما وقع من "كوارث تاريخية في رواندا "، ووسط خضم تلك الاتهامات قام كل من كولن باول (وزير الخارجية الأمريكي) .. وكذلك كوفي عنان (الأمين العام للأمم المتحدة) ..بدخول المنطقة -ولا نقول زيارتها –ووصلت حدة التصعيد من قبل عنان الذي تحدث وبلهجة غير معتادة أن قال وبشكل مفاجئ: إن الأمر قد يحتاج" إلى تدخل عسكري خارجي لوقف القتال في غرب السودان " .<BR>الاتحاد الأوروبي ..هو الآخر لم يدخر وسعاً في إطلاق التهديدات بالتدخل العسكري..وسبحان مغير الأحوال ..فمع أنه وقف ضد الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق ..أعلن بصراحة ووضوح عن احتمال تدخله –تدخله هو وليس الأمم المتحدة أو أي طرف أخر-عسكرياً في السودان .<BR><BR>وهكذا تكاملت أبعاد الموقف :احتمال عدوان عسكري على السودان ...يأتي ولأول مرة ضد دولة عربية تحت غطاء اتهام بـ"التطهير العرقي "، وهو أمر لم تعرفه الحضارة العربية والإسلامية ..عبر تاريخها الطويل العتيد أبدا.. والأهم أنه أيضاً.. اتهام باطل وغير صحيح الآن.. ليدخل السودان هو الآخر في دوامة الاتهامات المفبركة والكاذبة التي يجرى شن العدوان على أساسها ..أو يحدث الاحتلال تحت غطائها ..كما كان الحال في الاتهامات ضد العراق ..بإنتاج أسلحة دمار شامل ..، وعندما يكشف النقاب عن كذبها تكون السودان –كما حال العراق -قد احتلت أو احتل جانب من أرضها .<BR><BR>في الأمر ألغاز إذن ..أولها ..لم كل هذا الحماس من قبل الاتحاد الأوروبي إلى درجة التهديد باستخدام قوته الوليدة ..في تدخل وعدوان عسكري في السودان أو في دارفور تحديداً ..ليس فقط في الوقت الذي يصمت فيه عن الجرائم التي هي بحق ..جرائم تطهير عرقي وقتل على الهوية في فلسطين والعراق وأفغانستان ..ولكن لأن هذا الحماس يأتي تحديدا في دارفور ...بينما الاتحاد الأوروبي كان نائما –على نحو ما –خلال أزمة جنوب السودان نفسه.. ؟<BR>وثانيها ..لم كل هذا الحماس من قبل كوفي عنان ..ولم قام بهذه الزيارة بينما هو لا ينبس ببنت شفة في أحداث مهولة يشهدها العالم العربي والإسلامي ؟ هل يأتي ذلك لأن الرجل من أصل أفريقي ومن ثم هو يحاول تجربة لعبة الولاء المحلى أو العرقي ..ووجد الفرصة المناسبة ... ..أم لأن الرجل وجدها فرصة للسير داخل مساحة اتفاق أمريكي أوروبي ..ضدهم بما يعزز فرص إعادة انتخابه مجددا كأمين عام للأمم المتحدة فصار مثله مثل المرشحين في إسرائيل وأمريكا يتبارون على كسب أصوات الناخبين بمن يقتل أكثر من العرب والمسلمين ..؟<BR><BR>وثالثها ..ما هي حقيقة الموقف الأمريكي الذي لم نره ، يصل إلى مستوى التصعيد الأوروبي في التهديد المباشر والصريح ..باستخدام القوة العسكرية الأمريكية ..أو لم تحافظ الولايات المتحدة على درجة الاتهام للحكومة السودانية دون تطوير الأوضاع إلى حافة الهاوية ..كما عودتنا تجاه كل قضية عربية أو إسلامية في المرحلة الأخيرة؟ ...هل ذلك لأنها جربت أسلوب الضغط التدريجي أفلحت مع حكومة السودان بشان الجنوب فأرادت استخدام نفس اللعبة في الغرب؟..أم لأنها في وضع دولي مهتز بسبب ارتهان قوتها في العراق والمشكلات السياسية والعسكرية والاقتصادية الناتجة عنه فلا تريد زيادة الطين بله ؟ أم لأنها لا ترغب في إيصال الأمور إلى هذا الحد من الصراع العسكري خيفة أن يكون الاتحاد الأوروبي هو الكاسب هناك أو لكي لا يستغل الاتحاد الأوروبي الظروف لوضع أقدامه في السودان بينما تحاول الولايات المتحدة السيطرة عليه وحدها خدمة لمصالحها وأهدافها في السودان .<BR>وقبل هذا وبعده ، ما هو الطريق أمام الحكم في السودان ..لمواجهة كل ذلك ؟!<BR> <BR>ثوابت القضية<BR>لفهم ما يجرى في دارفور وحولها من الزاوية الاستراتيجية ..يبدو ضروريا الإشارة إلى ثلاثة أبعاد عامة :<BR><BR>البعد الأول :أن معركة دارفور في صورتها الراهنة لا يمكن دراستها أو فهم أبعادها إلا في إطار السياق العام للوضع الإستراتيجي الدولي بصفة عامة ..والعربي والإسلامي بصفة خاصة ..وملخصه أن ثمة هجمة استعمارية غربية ضارية على المستويات العقدية والسياسية والاقتصادية تكاد تكون هي الموجة الثالثة إذا اعتبرنا الموجة الأولى كانت الحروب الصليبية ..والثانية خلال نهاية القرن السابع عشر وامتدت حتى الستينات ..والثالثة هي ما نعيشه اليوم من حرب ضارية على الإسلام والمسلمين وعلى العنصر العربي حامل الرسالة ولغة القران ..والتي كان ابرز مؤشراتها العدوان على أفغانستان ..ثم العراق ..وثالثها السودان وكلها معارك تثبت فكرة أن الوزن والقدرة الاستراتيجية العربية والإسلامية على المستوى الرسمي لم يعد قادرا على مواجهة أي عدوان خارجي ..أن لم يكن بعض أطراف هذا الوضع الرسمي ..متعاونة مع ما يجرى .<BR><BR>البعد الثاني :أن الغرب لم يعد قوة واحدة موحدة كما كان عليه الحال خلال الصراع المصلحي الإستراتيجي مع الاتحاد السوفيتي، بل باتت بعض مصالحه متباينة –دون وهم مصادقة أي طرف لنا –بفعل زخم قوة التوحد الأوروبي والطموح الاستعماري المتنامي لدى أوروبا الموحدة بقيادة ألمانيا وفرنسا في مواجهة الجنوح الأمريكي الإمبراطوري للسيطرة على العالم منفردة ..وانه إذا كان الوضع الأفغاني شهد بداية تململ في علاقات التحالف الأوروبي الأمريكي ..وإذا كان العدوان على العراق المشهد الأوضح لتنامي صراع المصالح بين طرفي الأطلنطي فان الأمر فيما يتعلق بالسودان هو الأكثر تحديدا ..سواء بحكم انفراد الحلف الأمريكي البريطاني الصهيوني في السيطرة على لعبة الضغط في الجنوب ..أو بفعل الإعلان الفرنسي برفع حالة الطوارئ في القوات الفرنسية في تشاد –ويقابلها الإعلان البريطاني والأسترالي بجاهزية القوات للتدخل –أو بحكم النشاط الألماني غير المسبوق ..الذي لم يظهر في حالة صراع في العالم كما هو واضح الآن بشان قضية دارفور.<BR><BR>البعد الثالث :أن السودان كان دوما محلا لصراع غربي -غربي على النفوذ الاستعماري أو بالدقة هو كان مفتاح ونقطة الارتكاز في الصراع عليه وفى محيطه الممتد من قسمه الجنوبي وحتى الأطلنطي مارا بمنطقة وسط أفريقيا من ناحية ومن الناحية الأخرى كان الصراع حوله نقطة الارتكاز في تحديد مصير القرن الأفريقي ..وبطبيعة الحال هو البلد المتوسط لمنطقة دول حوض النيل ومركزها ..وان الصراع عليه لم يشهد عبر تاريخه معارك عسكرية استعمارية ..و إنما تم حل المشكلات الاستعمارية بين الدول الاستعمارية عبر الضغوط العسكرية والمفاوضات كما هو الحال في اتفاق فاشودة الذي تحددت بمقتضاه أوضاع الاستعمار في السودان وفى منطقة الجوار.<BR> <BR>المعركة الراهنة<BR>وفى إطار تلك الثوابت العامة ...لنترك السيد كوفى عنان وألغازه فهو أولا وأخيرا لا تقدم مواقفه ولا تؤخر، إذ هي في أولها وآخرها ..إما دفاعاً عن استمراره في موقعه ..وإما محصلة للتوازن في القوى والمصالح بين أوروبا وأمريكا ..ليعطى الموقف الأخير-ناتج هذا التوازن والصراع - شرعية أممية أو دولية..وإن كان الملاحظ هو أن مواقف موظفي الأمم المتحدة تشهد في المدة الأخيرة انعطافة في الولاء للمواقف الأمريكية والصهيونية أو ميل للعمل المباشر ضد العرب والمسلمين ..كما ظهر في الأزمة بين الأمم المتحدة والقيادة الفلسطينية بعد التصريحات التي أدلى بها تيد لارسن ومن بعد من خلال التصريحات التي أدلى بها منسق العمليات الإنسانية في السودان بشان دارفور.<BR><BR>لنترك السيد عنان وموظفيه ..ولنتوجه إلى أهم الغاز الموقف الدولي ..أي موقف الاتحاد الأوروبي ..بشأن دارفور .. فالاتحاد الأوروبي فجأة أصبح له أسنان وأنياب ..خلاف أسنان وأنياب حلف الأطلنطي ..وبعيدا عن الغطاء العسكري الأمريكي الذي دام طوال الحرب الباردة، وهذه الأنياب والمخالب العسكرية تبدأ تجربتها الأولى في التهديد بالتدخل في قضية دارفور..وللأسف باعتبارنا أمة هي محل اختبارات القوة في العالم ..فان الاتحاد الأوروبي اختار أن يبدأ اختارت القوى فينا أو علينا (ألم يقل الكثيرون: إن الاتحاد الأوروبي يسعى لأن يجعل المنطقة العربية -على الأقل -فنائه الخلفي كما هو حال الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية ..وإن قوة الاتحاد الأوروبي على المدى المتوسط والبعيد هي ضد أمتنا ؟)<BR><BR>(رئيس اللجنة العسكرية للاتحاد الأوروبي) غوستاف هاغلان ..وفى أول تجربة لإطلاق مثل هذه التصريحات والتهديدات ..قال " إن قوة عسكرية أوروبية قد تتدخل في دارفور " . وبعدها تتالت التطورات، حيث لم تدخر الدول الأوروبية الكبرى وسعاً كل على حدة ..في التنديد ب "التطهير العرقي" في دارفور واتهام الحكومة السودانية بمساعدة الميليشيا التي ترتكب هذه الفظائع (يال اليقظة الكبرى التي تنقلب إلى موات وليس نوم في فلسطين )..ووصل الحماس بوزير خارجية ألمانيا أن خرج على الأعراف الدبلوماسية ..ليطلب من الصين الضغط على السودان ؟ ثم أعلنت بريطانيا عن وضع نحو 5 آلاف جندي بريطاني في حالة استعداد للتدخل ..ومعها استراليا ..وأخيرا أعلنت فرنسا استنفار قواتها الموجودة في تشاد ..بسبب ما أسمته تردى الأحوال في دارفور.<BR><BR>لم كل هذا التكالب الأوروبي ..ولم التركيز على دارفور ؟ الأمر بسيط للغاية إذ إننا نشهد مرحلة عودة الاستعمار وتقسيم العالم بين القوى الاستعمارية ..وإن أوروبا باتت المنافس الآن للولايات المتحدة ..التي وإن كانت قد حصلت على الأرض في الجنوب ..فإن الاتحاد الأوروبي بدوره يبحث عن موطئ قدم هنا في السودان ..وبنفس الطريقة التي جرت بها "المعركة الاستراتيجية لفاشودة " قبيل نهاية القرن التاسع عشر.<BR><BR>أمريكا ..وحالة جديدة ؟<BR> الولايات المتحدة وضمن خطتها التي تستهدف السيطرة على نفط الجنوب وإطاحة الحكومة السودانية .. وتحويل السودان إلى دولة ذات حكم غير عربي وغير إسلامي ..وحصار مصر ..والانطلاق من الجنوب إلى السودان كله وإلى حزام وسط أفريقيا والقرن الأفريقي ..الولايات المتحدة بدأت تمد نشاط خطتها إلى دارفور لمزيد من الضغط على الحكومة السودانية ..ولخلخة أوضاعها الداخلية وإفقادها مزيد من الأرض التي تسيطر عليها ..فتحركت باتجاه دارفور ..وقامت بالتصعيد هناك ..غير أنها عادت لتحافظ على هذا القدر من التصعيد دون الوصول إلى حافة العمل العسكري.<BR><BR>وسواء ما كان شجعها على ذلك هو الرؤية الخاطئة للحكومة السودانية التي هي نفس الرؤية التي تأخذ بها الحكومات العربية الأخرى ...بأن لا بديل أمامها في أفضل الأحوال سوى المراوغة أمام الضغوط الأمريكية لتفادى ضربات عسكرية وحصار اقتصادي وسياسي ..أو كان ما شجعها على ذلك هو الموقف العربي الصامت أو الضعيف أو المتخاذل أمام الضغط الأمريكي ..واعتبار كل بلد أن أمر السودان لا يعنيه ..أو كان ذلك راجع إلى أسباب أخرى ..فالواقع الآن هو أن الخطة الأمريكية وبعد أن ثبتت جارانج نائبا لحاكم السودان ..انتقلت بقوة حركتها باتجاه دارفور وبالاعتماد على قوة التمرد في الجنوب التي هي المسئولة مباشرة عن ما يجرى على الأرض في دارفور..لكنها في هذه المرة لم تفعل كما فعلت في الجنوب من تدخل متسلل وضغوط أكثرها غير علني وبعضها علني على حكومة السودان ومساندة في اغلبها للمتمردين ..في هذه المرة دخلت على خط الأزمة على الأرض مباشرة وبوضوح –دون تهديد بالتدخل العسكري -..وذهب كولن باول إلى هناك بنفسه وكأنه يتفقد مقاطعة أو ولاية أمريكية –جارا معه كوفى أنان ..ومن هناك من واشنطن ..ساند بوش وزير خارجيته بتصريحات من هناك، لكن من يقرأ التحرك الأمريكي والتصريحات ..يلحظ أنها مالت إلى عدم "التشدد والعسكرة " والتهديد بالتدخل العسكري المباشر ....كما كان الحال في العراق بل هي عادت إلى الأمم المتحدة في هذه الأزمة ..وسر ذلك باختصار هو أن الولايات المتحدة ..باتت تدرك أن ساحة دارفور ليست خالية لها وحدها ..وأن الاتحاد الأوروبي يزاحمها هناك ..وأن مصلحتها تقتضي عدم إيصال الأمور إلى تفجير وعدوان عسكري واسع قد يفجر الوضع في السودان كله ويحرمها مما حققته في الجنوب ..وأنها رغم حديثها عن تدخل دولي فهي لا تقصد ذلك بمعنى الكلمة ..لا لأنها "ترأف "بحال السودان ..أو لا ترغب في ذلك أو أن مواقفها تحولت ..ولكم ذلك ببساطة أنها هناك لن تكون وحدها ..كما كان الحال في العراق ..وأنها بالدقة ستكون في موقف شبيه بالموقف الذي كادت بريطانيا أن تدخل بسببه في حرب مع فرنسا في نهاية القرن التاسع عشر –مع استبعاد هذه الحرب العسكرية الآن طبعا -وتم حل الأمر بالاتفاق الإستراتيجي في فاشودة ..ولذلك فان التهدئة الأمريكية هي محاولة لتفادى هذه الحالة حيث التهديدات العسكرية الأوروبية تقرأ على أنها ليست فقط تهديدات للحكومة السودانية –إلا إذا صدقنا الاتهام السخيف بالتطهير العرقي –وإنما هي أيضا موجهة للولايات المتحدة أيضا ..وسعى للضغط عليها لتحقيق اتفاق فاشودة جديد !<BR><BR>بداية المعركة<BR>المعركة الراهنة تعود بدايتها الحقيقيةإلى بداية ثورة الإنقاذ التي أعلنت رؤية إسلامية وأخذت بفهم الاستقلال الحضاري ..وهى رؤية ومنهج خشي منها الغرب أن تعيد تشكيل منطقة المحيط وليس السودان وحده بفعل الموقع الجغرافي للسودان ..وبسبب تشابك الأوضاع القبلية في المحيط مع القبائل الإسلامية ..فإذا أضيف لذلك أن السودان هو قنطرة ومعبر لتواصل المسلمين العرب مع المسلمين الأفارقة ..كان من الطبعي أن يتكالب الغرب على السودان .<BR><BR>غير أن حكومة الإنقاذ وانطلاقا من تلك الرؤية وبسبب حالة الحصار الغربي قد أضافت سببا أخر للمواجهة مع الغرب –دفاعا عن مصالحها -حين أخذت بفكرة توسيع مجالات التعامل الاقتصادي للسودان مع دول ليست غربية بالدرجة الأولى خاصة في مجال البترول ..الذي كان مكونه الاستثماري لشركات ماليزية وهندية وصينية .<BR>تحركت الدول الغربية ضد السودان وقام بالجهد الأكبر في ذلك الولايات المتحدة وبريطانيا والكيان الصهيوني وتمكنت الولايات المتحدة وبريطانيا والكيان الصهيوني بعد سنوات من العمل المخابراتي والسياسي والاقتصادي من حصار السودان بين دول الجوار ..وصل الأمر حد المجابهة العسكرية..وقد أشار السفير السوداني –في مصر –د.أحمد عبد الحليم ..إلى تلك المرحلة في وصف دقيق لها ..فبعد أن وصف ما يجرى الآن قائلا "هو محاولة لتقسيم السودان" .."وان الولايات المتحدة تتآمر على السودان ونحن في أمر وطننا لا نجامل أحدا خاصة إذا كانت وحدة السودان مهددة". أضاف "أن واشنطن سعت إلى دعم حركات التمرد "وكذلك فعلت بريطانيا وألمانيا بتوفيرهما ملاذا آمنا لقادتها"، مشيرا إلى لقاءات جرت في السفارات الأميركية والبريطانية مع قيادات التمرد".واستعرض السفير السوداني الإستراتيجية الأميركية المدعومة بريطانيا للتآمر على السودان منذ فترات سابقة، مشيرا إلى أن المؤامرة اتخذت شكل "محاصرة السودان بجيرانه" في عهد الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون، كما اتخذت شكل الاعتماد على المخابرات الإسرائيلية وعلاقتها مع دول جوار السودان، لافتا إلى أن عام 1997 شهد تحرك ثلاثة جيوش أفريقية للتحرش بالسودان وكان قائد غرفة العمليات في عنتيبي بأوغندا عميد في الجيش الإسرائيلي يقوم بتوجيه العمليات. وأوضح الدبلوماسي السوداني أن التآمر الغربي على السودان يتخذ إحدى صورتين إما تقسيم السودان لإضعافه عن طريق خلق دويلات صغيرة داخل حدوده، وإما احتواؤه وإدخاله في الجيب، "فالغرب يريد أن يكون السودان مقسما أو مدجنا".<BR><BR>وتحت هذا الضغط الذي تواصل على جانب أخر من خلال تمرد الجنوب والمدعوم أمريكيا وصهيونيا ومن خلال فتح جبهة الشرق على الجيش السوداني فحدث الانفلاق في النواة الداخلية للحركة الإسلامية وبدأت سلسلة التنازلات الرسمية السودانية في التعامل مع دول المحيط وفى المفاوضات مع تمرد الجنوب ..التي انتهت بتنازل الحكومة الحالية عن حق السودان في الوحدة ..أي حق التمرد في الجنوب في الانفصال عن السودان تحت مسمى حق تقرير المصير –وهو قول كان الغرب يرفض الاعتراف به للدول المستعمرة لكنه فجاه اعترف به واعمله في غير موضعه في إندونيسيا ثم السودان باعتبار السودان وإندونيسيا قوة احتلال –وبعدها جاءت أحداث الاحتلال الأمريكي للعراق بما أبطأ القدرة الأمريكية على الضغط الكثيف على حكومة السودان ..ثم أحداث التراجع والتسليم الليبي للضغوط الغربية بخصوص ما سمى بالمشروع النووي والصاروخي الليبي ..بما أعطى للحكومة السودانية مبررات أقوى للتراجع ..ودارت دورة المفاوضات ..وهنا أنهت أوروبا ترتيبات وحدتها وانتصرت إلى حد كبير على الضغوط والألاعيب الأمريكية وخاصة بعد الانقلاب السياسي في مواقف أسبانيا والضغوط الحادثة على الحكم في إيطاليا وبريطانيا ..ليقر الطرف الأوروبي بشكل خاص فتح جبهة دارفور وليكون الأكثر حماسا للعبة الغزو العسكري هناك حيث التواجد الفرنسي التاريخي في تشاد .<BR><BR>دخلت الحكومة السودانية الآن في دوامة أشد مما كانت فيها خلال مفاوضات الجنوب ..فإذا كانت خلال المفاوضات مع تمرد الجنوب في مواجهة مع تصاعد الضغط بالحصار الاقتصادي والسياسي ..إلخ ومن قبل الولايات المتحدة وبريطانيا ..فهي اليوم في معركة دارفور في مواجهة تهديد بغزو عسكري ..ومن أطراف لا حصر لها ولا عد ..وتلك هي أخر مسيرة المساومات ..لا المواجهة!<BR><BR>لقد أصبحت الحكومة السودانية داخل سيرك تلهب ظهورها التهديدات من قبل الأطراف الغربية ..وتصعد فيها أطراف التمرد من شروطها ..وبين الحين والآخر يظهر جارانج بمظهره القديم بتصريح من هنا أو هناك، ليذكر بأنه موجود في ساحة الصراع وجاهز لها مرة أخرى ..ومن ثم لم يعد أمام الحكم في السودان سوى كسر هذه الدائرة ..ولمواجهة النتيجة التي يسير إليها الوضع الحالي في السودان الآن حيث الأخطر من إسقاط الحكم في الخرطوم هو أن العرب والمسلمين سيتحولون زورا وبهتانا ووسط دعاية وفكرة إعلامية مزيفه ..إلى أقلية ..وحيث ستجرى إعادة تقسيم السودان ..مرحليا ..إلى شطر جنوبي يسيطر عليه جارانج ..وجزء يسيطر علية المتمردون في دارفور ..ويعقبها إشعال الصراع في الشرق ليتشكل هناك قسم أخر ربما يكون تحت الإشراف الإريتري والصهيوني المباشر..لتسقط الحكومة في الخرطوم ...ويومها في الأغلب والأعم سيعود السودان إلى التوحد تحت قيادة جارانج أو من على شاكلته !<BR> <BR>دارفور ..ولعبة الأكاذيب !<BR>كما هو الحال في خطط الإعلام الغربية ..تجرى شيطنة جهة أو تنظيم وشخص وتحويله إلى شيطان يظهر الغرب من خلال محاربته بكل النبل والأخلاق والعمل من اجل تنفيذ مبادئ حقوق الإنسان ..بينما هو ليس إلا غازيا مستعمرا بلا قانون أو أخلاق ..إلا في مجال الدعاية والإعلام والشعارات ..والجنجويد هي حالة الشيطنة الراهنة في السودان ..وما يميزها عن محاولة شيطنة الرئيس العراقي والشيخ أسامة بن لادن ومن قبلهما ..هو أن تكنيك الشيطنة في هذه الحالة يشيطن شيئاً مجهولاً ..أو غامضاً وغير معروف تاريخه في الإعلام أو لدى الرأي العام بما يتيح كل فرصة للتهويل والادعاء فهي مثلها مثل طائر العنقاء والأطباق الطائرة التي تروى عنها الحكايات والروايات بما يطرح ألغازا أكثر مما يقدم معرفة..و كلمة الجنجويد كلمة مركبة مكونة من ثلاث مقاطع هي "جن" ومعناها رجل في لغة تلك المنطقة وكلمة و"جاو" أو "جي" ومعناها أن هذا الرجل يحمل مدفعا رشاشا من نوع "جيم 3" المنتشر في دارفور بكثرة وكلمة"ويد" ومعناها الجواد..ليصبح معنى الكلمة هو الرجل الذي يركب جوادا ويحمل مدفعا رشاشا. وهؤلاء غالبا ما يلبسون ثيابا بيضاء مثل أهل السودان، ويركبون الخيل، ويهاجمون السكان والمتمردين معا في دارفور،على خلفيات حياة البداوة والرعي وحالات الخلاف والصراع القبلي على المراعى .ومن الكلمة وما تعنيه فليس هناك فيها أي وصف سيأسى أو عرقي أو حتى قبلي محدد. <BR><BR>إذا كان هذا هو معنى كلمة الجنجويد ..فإن حالة شيطنة الجنجويد ترتبط في الخلفية بإفقاد العرب المسلمين والحكومة السودانية كل قدرة على مواجهة التدخل والغزو والنشاط الغربي في دارفور ..الجنجويد أصبحت مثل حكاية سلاح الدمار الشامل في العراق يخاف الكل أن يدافع عنها..وإلا أصبح يدافع عن قتلة ومحترفي إجرام وعن تطهير عرقي .والتركيز على حكاية الجنجويد التي لا معنى سيأسى لها ..هو محاولة للتلاعب بالعقل الغربي الذي يعرف لعبة ميليشيات القتل والتطهير العرقي في ثقافته كما هو حال فرق الموت التي شكلتها المخابرات الأمريكية في مختلف بلدان أمريكا اللاتينية ..وميليشيات الصرب ..الخ .<BR> <BR>الحكم السوداني ..وبديل المواجهة <BR>مؤخرا كان التطور الأهم هو إعلان الحكم في السودان عن وضع جميع مؤسسات الدولة في حالة تأهب ..وقول (وزير الخارجية السوداني): إن بلاده سترد في حال هوجمت على خلفية أزمة دارفور ..وقبلها إعلان حزب المؤتمر الوطني الحاكم في السودان ..التعبئة لمواجهة احتمالات عدوان خارجي ..والقول بان التدخل بالقوة في السودان ..سيقابل بالقوة ..وهى تصريحات وقرارات جاءت في مواجهة التهديدات الغربية المتكررة بالتدخل العسكري الأجنبي في إقليم دارفور أو في مواجهة عملية غزو للسودان ..وهي أقوال وإعلانات سياسية سودانية تمثل بداية تحول في استراتيجية الحكم في السودان عن المرحلة الأخيرة ..وهى تأخرت كثيرا ..ونرجو أن لا تكون مجرد إعلانات ..وان لا تكون مجرد "تهويش كما نقول في مصر " ..حيث هي أصبحت تأتى بديلا للمنهج الآخر أو للرؤية المساومة التي أخذت بها حكومة السودان خلال المرحلة الأخيرة ..<BR>و تزداد أهميتها من أنها جاءت مترافقة مع تصريحات للرئيس البشير قال فيها مجددا -أو عاد فيها مجددا -إلى لب الموضوع حيث قال بأن الدولة الإسلامية هي المستهدفة . الأهم الآن هو أن يخرج الأمر من مجرد "إعلان" أو تهديد أو عن مجرد تعبئة سياسية للحزب الحاكم أو لمؤسسات الدولة ..إلى منهج متكامل من التعبئة -على الأقل بما يتناسب مع تهديد الدولة الإسلامية حسب تصريح البشير – والتي أول شروط تحويلها من "شعار للتعبئة" إلى "منهج وخطة للتعبئة وتغيير إستراتيجي حقيقي" ..هو إعادة الوحدة للحركة الإسلامية التي مثل انقسامها بداية الكارثة التي تطاولت وامتدت من الخرطوم -أساسا عبر الخلاف والصراع وانقسام الحزب الحاكم إلى حزبين -إلى الجنوب عبر مفاوضات مع التمرد وقبول الضغوط الأمريكية والبريطانية والكنسية والتعامل معها بإيجابية ..فتحول تحت تأثيرها التمرد المدعوم والممول خارجيا إلى مجرد طرف في صراع داخلي تم التفاوض معه تحت أوهام شعارات السلام ..ثم انتقل تأثيرها إلى دارفور .. حيث لم يجن السودان سوى زيادة تعنت المتمردين ..واتساع دائرة مطالبهم ..وكذلك لم يجن سوى مضاعفة التصعيد في لهجة التدخل الأوروبي من جهة والضغط الأمريكي -وحتى من قبل كوفي عنان -وهى تهديدات وصلت حدا من الجانبين البريطاني والأسترالي ..غير مسبوق حيث أعلنت الدولتان عن وجود آلاف الجنود البريطانيين والأستراليين الجاهزين للتدخل ..حيث بريطانيا تستعيد أمجادها الاستعمارية المأساوية ضد امتنا ..وحيث استراليا باتت أكثر عدوانية هي الأخرى ضد أمتنا من إندونيسيا إلى العراق ثم إلى دارفور(!) وكأنها لا يكفيها قيام الولايات المتحدة وبريطانيا والكيان الصهيوني وأوروبا بهذا الدور..!.<BR><BR>التعبئة كمنهج.. تبدأ من الخرطوم ..من استعادة زمام المبادرة الاستراتيجية والتكتيكية الذي ميز نظام الإنقاذ في بدايته ..فهو الذي أعاد المبادرة الاستراتيجية للحكم في السودان بعد مرحلة متطاولة من التراجع الدائم أمام تمرد الجنوب وأمام ضغوط دول الجوار...غير انه عاد وأضاع هذه المبادرة برضوخه للضغوط الخارجية ..وكانت البداية هي شق الحركة الإسلامية رضوخا لها وتحت ضغطها وإرضاء لها.<BR><BR>واستعادة المبادرة ..يكون بان يملك الحكم في السودان الإرادة والعزيمة لاستعادتها ..وامتلاك الإرادة ..يكون شرطه الأول والاهم ..هو الانطلاق فورا باتجاه ..توحيد الحركة الإسلامية ووقف مهزلة التعاون مع الخارج ضد من هم في الداخل أو وقف تنفيذ طلبات الخارج ضد من هم الأهل والسند والقوة في الداخل ..وشرطه الثاني هو العمل على حشد كل الطاقات الوطنية السودانية في الداخل من الحركة الإسلامية وغيرها ..حيث أثبتت الأحداث الأخيرة أن كثيرا من القيادات المعارضة -الشرسة في معارضتها للحكومة- وقفت ضد التدخل الخارجي بعد تصاعد التهديدات واحتمالات الغزو ..أما شرطه الثالث فهو أن يكون هناك "خطة للمواجهة" وليس مجرد شعارات وتلويح وتهديد ..فالناس التي تتجمع خلف شعارات العواطف تنفض أو تتوه مع تعرجات الأحداث وضراوتها ..خاصة إذ لم تتحول المواجهة إلى منهج لدى الجميع وعلى الجميع ..الحاكم والمحكوم..وخطة المواجهة تستدعى إنهاء لعبة المساومة والمهادنة والملاينة للضغوط الخارجية -وعدم المساومة على الثوابت وعدم الانقلاب والتقلب -وإبراز التحدي وبيع الدنيا بالآخرة إذا تطلب الأمر ذلك ....وذلك هو الأمر الأهم حيث أن الخطر الذي جر السودان إلى ما وصلت إليه الآن من تكاثر الأعداء وتجمعهم هو التغير الذي حدث في استراتيجية الإنقاذ بالتحول من التعبئة إلى المساومة والانتقال من فكرة مواجهة التحديات بالخطط والمجابهة إلى منهج المساومة والتنازل الذي جر السودان من تنازل إلى أخر..حيث الضعيف يتطلب حاله حشد كل قواه واختيار انسب سبل استخدام قوته لا التفريط في عوامل قوته ومقومات خطته ..جريا وسعيا وراء سراب .<BR><BR>والمواجهة لا بديل لها أن تبدأ من الخرطوم ..وبصفة محددة ..من مركز اتخاذ القرار حاليا في الحكم ..بالتراجع عن المشوار البغيض في شق الحركة الإسلامية ..والتمثيل برموزها التي كانت عامل توحيد للصف الإسلامي في السودان ..سواء لان الأحداث أثبتت أن الدول الغربية لن ترضى عن حكم في السودان غير علماني ..مهما كانت الإجراءات التي اتخذت ضد الطرف الآخر في الحركة الإسلامية ..والتي وصلت إلى حد اتهام الدكتور الترابي وحزب المؤتمر الشعبي بالقيام بانقلاب مسلح ..أو لان الأحداث أثبتت أن الدول الغربية لن ترضى بإطاحة الحكم الحالي في السودان.. بديلا ..مهما كان حجم التنازلات التي قدمتها الحكومة ومهما ما وصلت إليه رغم أنها وصلت إلى حد التنازل عن كل تراث الإنقاذ في وصف وتوصيف جارانج والى الاستسلام للضغوط الأجنبية وإدخاله في جسد الحكم في السودان والى التنازل حتى عن وحدة السودان المستقبلية بالموافقة على حق جارانج في الانفصال بجنوب السودان ..بحجة أن هذا هو الأصح للسودان واقل تكلفة !<BR><BR>أن المشكلة أن البعض يتصور أن الخطط الاستراتيجية المساومة والمستسلمة اقل تكلفة في أرواح البشر وفى المخاطر على مستقبل الدولة والمجتمع ..لكن الواقع الفعلي والتجارب أثبتت أن التخاذل والضعف ..ولعبة المساومات في ظروف الأمة فيها هي الأضعف تؤدى لكوارث أسوأ من مخاطر المواجهة والتعبئة ..حيث العدو المهاجم ينفذ خططه -التي تقوم على تناقض جذري مع العالم الإسلامي -في كل الأحوال والفارق بين تحقيقه لأهدافه مع حالة من الاستسلام منا وبين تحقيقها عبر الحرب والقتال أو المواجهة ..أنه حتى وإن كان صحيحا أنه من المؤكد أنه سيحقق الانتصار الحربي في الجولات الأولى للحرب إلا أنه سيخسرها وينكسر في النهاية ..ومثال ذلك في العراق وأفغانستان ..واضح وكبير .وببعض من التفصيل فإن العراق خسر في الحصار ودون مواجهة حربية متأججة نحو مليون طفل دون أن يخسر الأعداء الأمريكيين أي شيء حتى من سمعتهم الدولية ..لكن المقاومة التي اشتعلت بعد انتصاره العسكري في المرحلة الأولى من الحرب ..تصاعدت حتى تكاد تنهى وضعه الإمبراطوري الدولي، وكذلك الحال في أفغانستان ..فرغم الانتصار الأولى للقوات الأمريكية إلا أن لا هدف واحد تحقق في العدوان حتى الآن ...إلا الخسارة لأمريكا ..هذا إلا إذا قسنا الدنيا والصراعات بمقياس آخر ..يقوم على أن القبول بالذل والاحتلال والهوان العقدي والثقافي ..والفقر ..أفضل أو أهون من المواجهة. <BR><BR>التعبئة ..أو الاستسلام !<BR>حتى يبدوا الأمر جليا ..فإن الخطأ الأكبر الذي وقع فيه الحكم في السودان هو تصور أن التراجع والمساومة في المواجهة ..ستكون تكلفته الحربية والسياسية أقل ..وإن بالإمكان المناورة بتقديم التنازلات ..وإن نموذج المواجهة في أفغانستان وفى العراق ..لم ينتج عنه سوى الخراب ..وهو تفكير انطلق من حرص على الصالح الوطني السوداني ..لكنه يمثل خطأ استراتيجيا من حيث تقييم الأوضاع والنتائج ..خاصة وأنه جاء مرتبطا بالتضحية بقلب الحركة الإسلامية نفسه .<BR><BR>والحق أن الأمة باتت في مفترق طرق حول استراتيجية المواجهة مع الخطط الاستعمارية الغربية بكل مكوناتها ..مواجهة انحاز فيها الحكم في السودان إلى رؤية المساومة والتنازل واللعب على الاستجابة للطلبات الاستعمارية خطوة خطوة ..فانتهت الأمور إلى ما أصبح فيه السودان الآن ..مهددا بكل هذه التهديدات..بينما كان النموذج الآخر هو رفض طالبان والعراق والشيخ أسامه وصحبه للتنازل والمساومة...ورفع شعار المقاومة والجهاد ..لا المساومة والتنازل ..بما أنهك الولايات المتحدة ..وحاصرها دوليا ..و أضاع هيبتها ونفوذها وسمح لقوى أخرى باحتلال مساحات أوسع في الساحة الدولية على حسابها..وإذا كان مفترضا أن الحكم في السودان أخطأ استراتيجيا سابقا ..وان ثمة إرهاصات للتحول من منهج المساومة ..إلى منهج المقاومة بإعلان التعبئة ..والاستعداد للمواجهة الجهادية ضد أي غزو ..فان ما يجب التشديد عليه الآن –إضافة إلى جدية هذا التوجه وتحوله إلى خطة حقيقية –هو أن السودان ..لو فعل هذا الآن ..لقلب الطاولة على رؤوس أعدائه جميعا ..بفتحه جبهة على الغزاة ..في وضع هم فيه في حالة اشتباك في العراق وأفغانستان وفلسطين ..ولأصبح قادرا بالفعل على إنهاء النتائج التي تحققت لصالح المستعمرين في المرحلة السابقة ..وبما يقرب لحظة انتصار الأمة في المناطق الأخرى ...لكن ثمة احتمال أخر هو أن يواصل الحكم في السودان مسيرة التنازلات والمساومات ..وهو ما يزكيه الإعلانات الصادرة بالاستعداد لتقاسم السلطة والثروة و إقامة فيدرالية في دارفور ..وهى نفس التعبيرات التي جاءت بعدها التنازلات في الجنوب ..وهنا سنكون أمام ..اتفاق فاشودة جديد يتقاسم فيه المستعمرين ثروات السودان أرضه !<BR> <BR>اتفاق فاشودة !! <BR>الرواية التاريخية لواقعة فاشودة تروى بدءا من أن الخديوي إسماعيل كان أول من صمم على الوصول إلى أعماق الجنوب السوداني .. عند تأسيسه مديرية خط الاستواء على حدود أوغندا ليسيطر على كل مجرى نهر النيل والامتداد في أعماق القارة ..وقد أصبحت تلك المناطق ضمن الوجود المصري في السودان ..وان كانت هي في تلك المدة ومن حيث الجوهر ليست إلا تمددا للاحتلال البريطاني في السودان بغطاء من مصر التي كانت تحت احتلالها ..حيث تحرك القائد الإنجليزي كتنشنر باتجاه الجنوب .. باتجاه إخضاع مختلف المناطق للاحتلال البريطاني السافر بعد هزيمة الثورة العرابية في مصر ..وهزيمة الثورة المهدية في السودان في وقت متزامن ..والمهم أن الإمبراطورية الفرنسية كانت بدورها تتحرك باتجاه منطقة جنوب السودان موطئ الأخرى حيث كان القائد الفرنسي مارشان قد وصل إلى فاشودة ..بعد عامين من خروجه من مدينة برازافيل في الكونغو على راس جنود سينغاليين مجتازاً ثلاثة آلاف كيلو متر في جوف القارة بهدف ضم أعالي النيل إلى الإمبراطورية الفرنسية ...لتلتقي قواته مع كتشنر وقواته وهو الذي كان بعد انتصاره على المهدية واحتلال الخرطوم قد انطلق على مركب بخاري ومعه عدد من الجنود المصريين والسودانيين متجهاً إلى فاشودة، حيث وصل بعد يومين من وصول مارشان. وعندما التقى الطرفان أعلم كتشنر القائد الفرنسي بأن عليه العودة إلى بلاده وترك فاشوده لأن الأرض التي يقفون عليها هي أرض مصرية وأن الخلاف هو بين مصر وفرنسا، وقد استقبل كتشنر خصمه الفرنسي بلباس ضابط مصري وتحت العلم المصري. كانت مرحلة صراعات بين الدول الاستعمارية حول السودان ومنطقة القرن الأفريقي ووسط أفريقيا ..وكانت نقطة الالتقاء هي فاشودة التي انتهت بدون معركة عسكرية هي عنوان لتقسيم المنطقة وفق نظرية الاتفاقات الودية والتي تبلورت بعد سنوات قليلة فيما سمى بالاتفاق الودى لتقسيم الدول العربية أو المستعمرات بين الدول الاستعمارية ..بعد صراعات نفوذ حاولت فرنسا خلالها هي الأخرى الاتصال بالثورة المهدية والطلب منها رفع العلم الفرنسي فوق فاشودة مقبل أن تقوم بمساندة الثورة المهدية ضد في مواجهة بريطانيا . <BR> <BR>وبعد مواجهة فاشودة انتهت الأوضاع إلى الاستقرار على تقسيم "السودان العظيم" إلى مناطق نفوذ وقع فيها السودان الحالي الذي نعرفه تحت الاحتلال الإنجليزي أخذت إيطاليا (بيلول) شمال خليج (عصب) والمنطقة الساحلية قرب (مصوع) إريتريا الحالية , وأخذت الحبشة مدينة (هرو) وانتزعت إنجلترا الجهات المطلة علي بحيرة فيكتوريا ووضعت فيها أساس لمستعمرة أوغندا كمركز لمستعمراتها الأفريقية وأخرجت إنجلترا فرنسا من فاشودة تحت العلم والجيش المصري إلى المناطق الأخرى في جوف القارة ...وهى التي أصبحت تسيطر على تشاد فعليا.<BR><BR>نحن الآن في دارفور أمام معركة فاشودة جديدة ..حيث حل الاستعمار الأمريكي محل الاستعمار البريطاني ..أو هو اخذ بريطانيا خلفه ..واستولى على الجنوب أو كسب معركته هناك ..وحيث تتحرك فرنسا ضمن التحالف الفرنسي الألماني ..وتحت علم الاتحاد الأوروبي وانطلاقا من الوجود في تشاد باتجاه الحصول على موطئ قدم في السودان .<BR><BR><br>