مواقف الدول الأوربية من الحجاب والاستثناء الفرنسي
22 ذو الحجه 1424

"كيف يمكن ذلك؟ كيف يمكن لفرنسا المعتبرة وطن حقوق الإنسان والديموقراطية الحديثة أن تمارس هذا التمييز الكبير".. تلك هي بحسب صحيفة "غازيتا فيبوركز" الصادرة في مدينة فرصوفيا، ردة فعل البولونيين على مسألة الحجاب .<BR>يمكن بالطبع الرد على هذا الموقف بالإشارة إلى وزن الكنيسة الكاثوليكية في بولونيا. يبقى أن مجمل الجيران الأوروبيين تقريباً متفاجئون بسخونة النقاش الفرنسي حول الموضوع، وبالنسبة للعديد منهم يبدو اللجوء إلى القانون لمنع ارتداء الحجاب أمراً غير لائق. <BR>لا غرابة هنا، في الواقع، فـ"العلمانية الفرنسية" لم تجد من يتشبه بها.<BR> ففي أوروبا هناك العديد من الدول التي لم تتحرر تماماً من هيمنة الدين من دون ذكر الملوك الحاكمين، إضافة إلى أن مسألة الهجرة الإسلامية ليست مطروحة فيها بالطريقة نفسها، سواء بقي الحضور الإسلامي فيها هامشياً، أو أن التجنيس من خلال الحق في الأرض يبقى غير وارد، فيتغلب الانتماء الديني على الاندماج. <BR>في ألمانيا تلجأ بعض المقاطعات فيما يتعلق بالحجاب إلى القانون، وخصوصا أن الجالية الإسلامية هناك تعد 3،2 مليون شخص (أي: 3،8 في المائة من السكان غالبيتهم من الأتراك أو الأكراد .<BR>وقد قررت المحكمة الدستورية في مدينة كرلسروه في 24 سبتمبر 2003م، بناء على شكوى تقدمت بها مدرسة من أصل أفغاني، أن سلطات مقاطعة باد فورتمبرغ كانت على خطأ عندما منعتها من ارتداء الحجاب، إذ كان المطلوب في نظر القضاة أن يعمد مجلس المقاطعة إلى تشريع يضع "نظاماً مقبولاً من الجميع"، بعد مرور أربعة أشهر ما زالت عشر مقاطعات ترفض الانصياع، ثلاثة منها (ساكس، هيس، وبرلين) تريد منع الحجاب في الوظيفة العامة، وثلاث أخرى (باد فورتمبرغ، بافاريا، وساكس السفلى) في المدارس فقط من دون التعرض للرموز النصرانية واليهودية. <BR>بالطبع أثارت تدابير من هذا النوع سجالاً عنيفاً، ففي رسالة مكتوبة موجهة إلى الاتحاد الديموقراطي المسيحي، رفضت أنجيلا مركل منع الإشارات الدينية في الأمكنة العامة، معتبرة أن التقاليد المستوحاة من النصرانية هي جزء من ثقافتنا، ويضيف توماس دي مازيير (وزير العدل في مقاطعة ساكس) قائلاً: "إن ذلك قد يؤدي إلى فصل مبالغ فيه بين الدولة والكنيسة"، وإذ يذكر "أن على الدولة من حيث المبدأ المحافظة على الحياد إزاء الأديان"، يزعم رئيس مجلس البوندستاغ (من الاشتراكيين الديموقراطيين)، وولفغانغ تيرس "أن الصليب ليس رمزاً للقمع بينما الحجاب هو كذلك بالنسبة للمسلمات!"، لكن كان لرئيس جمهورية ألمانيا، يوهانس راو، رأي آخر بأن يشمل المنع الشعارات النصرانية. كان هذا كافياً لإدخال الكنائس حلبة السجال، فجاء الجواب من الكاردينال كارل ليهمان (رئيس مجلس الأساقفة)، بأن لا مجال لوضع الصليب والحجاب على المستوى نفسه، وأعلن الكاردينال راتزينغر (رئيس مجمع الإيمان في الفاتيكان، والمستشار المقرب من يوحنا بولس الثاني) موقفاً رسمياً خلال قداس العام الجديد "لن أمنع المسلمة من ارتداء الحجاب، لكني من باب أولى لن أدع أحداً يمنع الصليب كرمز عام للمصالحة!". <BR>تدل هذه التناقضات على واقع الالتباس في وضعية الدين في ألمانيا، فدستور عام 1949م تبنى إحدى مواد دستور جمهورية فيمار (1919م) التي لا تفصل بوضوح بين الدولة والكنيسة، بل تكتفي بالتأكيد "أن لا كنيسة للدولة"، وتضمن "معاملة بالمثل للأديان كافة"، إضافة إلى ذلك فإن مقدمة الدستور الحالي تشير إلى أن هذا الدستور قد تمت صياغته مع إدراك مسؤولية الشعب الألماني أمام الله والإنسان، وبالفعل فإن الراهبات في المدارس العامة يرتدين لباسهن خلال التدريس كما يسمح برفع الصلبان في الصفوف، ويطلب إدراج حصص التعليم الديني الاختياري ضمن البرنامج المدرسي، كما أن الدولة تتقاضى رسوماً من الـ55 مليون نصراني تعيد دفعه إلى الكنائس. <BR>وكان غيرهارد شرودر (أول مستشار ألماني) لم يشر إلى الله خلال أدائه القسم، لكنه صرح قبل عيد الميلاد الماضي أن "ألمانيا ليست علمانية بل دنيوية"، وهي مفعمة بـ"الديانة اليهودية - النصرانية". وأعلن لا مكان للحجاب عند موظفي الدولة بمن فيهم السلك التعليمي، لكني لا أستطيع منع فتاة ترتاد المدرسة من وضع الحجاب". <BR>وتتخذ النساء السبعون المنتميات إلى المجموعة المكلفة من الحكومة الفيدرالية مهمة الاندماج الاجتماعي برئاسة ماريلويز باك، موقفاً أكثر راديكالية: "إذا منعنا المحجبات من ممارسة مهنة التعليم من دون تفحص دوافعهن الفردية في ارتدائه، فإننا نعاقب أولاً بأول النساء اللواتي يسعين إلى التحرر عن طريق العمل". <BR><BR>"إن للفرنسيين موقفاً نابعاً من ثقافة فرنسا وتاريخها يختلف عن موقفنا من العلمنة وإبراز العلامات الدينية، ففي بريطانيا لا مشكلة لدينا في التعبير الديني من خلال الحجاب أو الصليب أو القلنسوة. إن الاندماج لا يعني الانصهار، فالهوية البريطانية تشتمل على قوميات عدة وتقاليد دينية عدة. التنوع جزء من قوتنا، ونحن فخورون ببلدنا المتعدد الثقافات".. يختصر هذا الإعلان من سكرتير الدولة للشؤون الخارجية، مايك أوبراين، على أفضل وجه الهوة التي تفصل بين الرؤية الإنجليزية والإشكالية الفرنسية. <BR>في المملكة المتحدة (مليونا مسلم غالبيتهم من أصول هندية وباكستانية، ويمثلون 3،4 في المائة من السكان) يرجع القرار الداخلي في المدرسة الرسمية إلى المديري ، وغالبيتهم سمحوا بارتداء الحجاب والكيبا اليهودية وعمامة طائفة السيخ، في المستشفيات يسمح بالزي الإسلامي إذا تم تقديم طلب صريح بهذا المعنى، حتى الشرطة تتساهل بارتداء الحجاب والعمامة بين صفوفها... يعد جون هنلي في صحيفة "الجارديان" العلمنة "مفهوماً مجرداً، لا بل عبثياً لمن اعتادوا مفهوم التعددية الثقافية البريطانية أو الأميركية"، أما جون ليكفيلد، من صحيفة "الإندبندانت" فيعد السجال الفرنسي حول الحجاب باطنياً. <BR><BR>تقف بلجيكا (300 ألف مسلم و2،9 في المائة من السكان) في موضوع الحجاب بين ألمانيا وبريطانيا، ففي غياب تشريع فيدرالي تبقى المدارس حرة في فرض القواعد الداخلية ومنع الحجاب إذا أرادت. النزاعات القليلة التي حصلت - خصوصاً داخل الجماعة الفرنسية - تم حلها بالتراضي، لكن المسألة عادت إلى الواجهة مع منع الحجاب في إحدى مدارس بروكسل والاحتجاجات التي أثارها هذا المنع داخل الجماعات الإسلامية. <BR>منذ ذلك التاريخ تقدم عضوان ناطقان بالفرنسية في البرلمان (الاشتراكية آن ماري ليزين، والليبيرالي آلان ديستكس) بمشروع قانون يمنع الزي الديني في المدارس والوظائف العامة، لكن الحكومة لا ترغب في إقرار القانون خلال المدة الانتخابية، فبالنسبة لرئيس الحزب الاشتراكي ايليو دو روبو "علينا إنضاج البحث من دون أفكار مسبقة". <BR><BR>هولندا (300 ألف مسلم و1،9 بالمائة من السكان) تريد أن تكون أكثر تساهلاً، حيث يمنع القانون فيها أي تمييز ديني والحجاب ظاهر في المدارس الرسمية، كذلك الأمر في البلدان الاسكندنافية التي تسمح بالحجاب وباسم حرية المعتقد في التعليمين الرسمي والخاص، وفي السويد (350 ألف مسلم أي 4 في المائة من السكان) تم فقط رفض طلب تلميذتين من أصل صومالي بارتداء البرقع من أجل السماح للأساتذة بالتعرف على الطلاب، أما في الدانمارك (170 ألف مسلم من أصل 5،3 ملايين نسمة) فعبثاً اقترح حزب الشعب الدانمركي (يمين متطرف) في صيف عام 2003م قانوناً لحظر الحجاب، من جهته شدد تحالف المحافظين والليبراليين لهجته ضد الحجاب من دون التوصل إلى سن قانون، وقد صرح (وزير الاندماج) برتل هاردر: "قولوا ما تشاؤون عن الحجاب، لكني ضد الحظر الوطني، إنه مخالف لمبدأ حرية التعبير". <BR><BR>الوضع مشابه في إسبانيا (300 ألف مسلم، 0،7 في المائة من السكان)، حيث يتم ارتداء الحجاب في المدارس العامة والخاصة. وحدها مدريد شهدت نزاعاً جدياً منذ سنتين عندما اعترضت إدارة ثانوية خوان هيريرا الخاصة على ارتداء فتاة مغربية تبلغ من العمر 13 عاماً الحجاب في الصف، وانتهى الأمر بانتقال الطالبة إلى مدرسة رسمية، وعدت (وزيرة التعليم) بيلار كاستيو في نهاية شهر ديسمبر 2003م في تصريح لصحيفة "ألبايس" أنه إذا كان إشهار الرموز الدينية في المدارس "غير مناسب"، فلا يجب في المقابل حظرها، وتوضح الصحيفة أن تحفظ حكومة أزنار يعود إلى أنه قد تم سحب الصلبان من غالبية مراكز التعليم الرسمي، وخصوصاً لأن لدى مجالس المدارس صلاحيات كافية لاتخاذ القرارات في هذا الخصوص. <BR><BR>في إيطاليا (800 ألف مسلم، 1،4 في المائة من السكان) قضية الحجاب ليست مطروحة، حيث إن الهجرة الحديثة العهد لم تصل بعد إلى حد تجميع العائلات ولا تضم في صفوفها عدداً كبيراً من النساء والفتيات، والمفارقة هي أن وجود صليب في إحدى المدارس الابتدائية في أوفينا، وهي قرية صغيرة في جبال الابروز، قد أثارت الفضيحة، فالقاضي ماريو مونتانارو أمر في نهاية أكتوبر 2003م، بنزع الصليب بناء على دعوى تقدم بها عادل سميث (مؤسس الحزب الإسلامي الإيطاليً إثر شكوى من أحد الأهل، وقد برر القاضي حكمه بالقول: "يعبر الصليب عن التبني الضمني لقيم لا تمثل ميراثاً مشتركاً لجميع المواطنين". <BR>تسبب الحكم بموجة عارمة من الاستنكار وصلت إلى رئيس الجمهورية، كارلو ازيليو شيامبي، الذي شدد على "رموز القيم التي هي في أساس هويتنا"، كما عد البابا أن الاعتراف بالميراث الديني المحدد لمجتمع ما يتطلب الاعتراف برموز هذا الميراث، مؤكداً أن حظرها "باسم تفسير خاطئ لمبدأ المساواة" يمكن أن يتحول إلى عامل اضطراب، وبالتالي سببا للنزاع! لم ينزع الصليب من مدرسة أوفينا لا، بل أضيف إليه صليب ضخم آخر، هدية من دير مجاور! تجدر الإشارة إلى أن السجال ليس جديداً بدليل أنه بالرغم من أن الكاثوليكية لم تعد ديانة الدولة بعد الحرب العالمية الثانية، فإن قانوناً يعود إلى عام 1923م يقر بوجود صلبان في المدارس. <BR><BR>إذا صوت البرلمانيون الفرنسيون على القانون المطروح عليهم تكون سياسة فرنسا إزاء المظاهر الدينية قد اقتربت من سياسة تركيا، البلد المسلم الذي ينتهج مسلكاً علمانياً متشدداً، فالقانون يمنع ارتداء الحجاب في المدارس والجامعات كما داخل المباني الرسمية، ويأتي تشدد السلطات تقليدياً في هذا الموضوع من كون المطالبة بحرية ارتداء الحجاب تشكل غالباَ دعماَ مؤيداَ للإسلام السياسي. <BR>تبنى رجب طيب أردوغان (رئيس الوزراء التركي) الذي وصل إلى السلطة في نوفمبر 2003م، الميراث العلماني لكمال أتاتورك بالرغم من انتسابه إلى حزب العدالة والتنمية الإسلامي الميول، وقد طرحت القضية أمام محكمة العدل الأوروبية، الآنسة ليلى شاحين عام 1998م بدعوى منعها من إكمال دروسها مما دفع المحكمة إلى اتهام أنقرة بالاعتداء على الحريات، فهل تدان تركيا بسبب قانون سوف تتبناه فرنسا في المستقبل القريب؟ <BR><BR><BR><BR><BR>* مترجم عن صحيفة "لوموند ديبلوماتيك" - عدد فبراير 2004م<BR><br>