مستقبل حزب البعث الحاكم في سورية
9 جمادى الأول 1424

قبل انهيار الاتحاد السوفييتي زعيم الكتلة الشيوعية في العالم، حرص هذا الاتحاد على الدفاع عن معظم الأحزاب الشيوعية الأخرى في مختلف دول العالم، رغم أن فروقاً في الأفكار والتطبيق والمبادئ كانت طبقت في بعض الدول بشكل مغاير لفكرتها الأساسية في الاتحاد السوفييتي.<BR>إلا أن الأحزاب الناشئة من منطلق واحد ، مهما بلغت نسبة الاختلاف بينها، تبقى مشتركة في أهم نقطتين، وهما: نقطة البداية ونقطة النهاية، على الرغم من التفاوت الزمني بين حزب وآخر. <BR><BR>لذلك فمن المنطقي أن انهيار الاتحاد السوفييتي بفكرته الشمولية حول مبادئ ماركس ولينين، وتطبيق الأيديولوجية الشيوعية، أعقبه عدة انهيارات في دول عالمية كانت تحمل الفكر الشيوعي لسنوات طويلة.<BR><BR>وربما تضيء هذه النظرة التاريخية لنشوء الأحزاب وتفككها، الطريق المتوقع لمصير حزب البعث العربي الاشتراكي في سورية، بعد أن تفكك نفس الحزب (على اختلاف التيارين) في العراق. <BR><BR><font color="#0000FF" size="4">الأرضية الفكرية للحزب الحاكم في سورية:</font></br><BR>إن حزب البعث السوري الحاكم كغيره من الأحزاب العربية والكثير من الدول العالمية، تعمل على تكريس مبدأ الحزب الواحد، حيث يتسلم زمام السلطة، ويفرض أجندته الخاصة، ويعمل على تطبيع جميع فئات الشعب من أجل الدخول في هذا الحزب، دون أدنى حد من مناقشة التطورات على الساحة العالمية، والتغيرات السياسية والإقليمية والفكرية، التي قد تتطلب من الحزب أن يغير أو يعدل شيئاً من مبادئه، والتي تعد في معظم الأحيان (مقدسة).<BR><BR>على أن هذه الأحزاب تحمل في طياتها (في الأساس ) أفكاراً غربية مستوردة، ومبادئ غريبة عن المجتمعات العربية.<BR><BR>وهذه الأفكار المستوردة تم جلبها من الغرب تارة ومن الشرق تارة أخرى تحت شعارات براقة كانت تحظى في وقتها بالقبول لدى الفئات الشعبية، وفي مقدمتها: التحديث، والتنمية، والديمقراطية، والتحرر، والعدالة الاجتماعية. <BR>وقد تشابهت هذه الأفكار لدى معظم أنظمة الحكم الثورية العربية منذ مطلع الخمسينيات من القرن الماضي؛ إذ اعتاد الضباط الذين سيطروا على الحكم في هذا البلد أو ذاك على إعلان أن أهدافهم تتمثل في القضاء على الاستعمار، ومن ثم على أركان الحكم القديم بما في ذلك الإقطاع والفساد وسيطرة رأس المال على السلطة السياسية، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة، وعدالة اجتماعية، وجيش وطني قوي، وذلك كله من أجل تحقيق أهداف قومية عربية سامية تتمثَّل في: الحرية والاستقلال عن السيطرة الأجنبية، والوحدة التي تعصم العرب جميعاً من التجزئة والفرقة والاشتراكية التي تضمن للجماهير العربية -حسب زعمهم- العدالة الاجتماعية.<BR><BR>وبدلاً من بناء تلك الأهداف على أسس قوية من القيم والمبادئ الإسلامية التي تشكل الضمير الجماعي لشعوب الأمة كلها، راح أولئك الضباط يستوردونها _كما قلنا_ من فلسفات أجنبية مبتورة الصلة بهوية شعوبهم، ومضادة لعقيدتها في بعض الأحيان، مثل: الأفكار الماركسية والاشتراكية والعلمانية التي تبناها البعثيون والناصريون والقوميون العرب بدرجات ونسب متباينة من قطر إلى آخر، ومن مرحلة زمنية إلى أخرى. <BR><BR>وحزب البعث العربي الاشتراكي السوري لا ينفصل عن مجمل هذا الكلام الخاص بأحزاب المنطقة العربية، حيث الفكر الاشتراكي المستورد من الغرب، والمتمثل في فكر ماركس ولينين.<BR>وهذا يؤكده تاريخ نشأة الحزب في سورية.<BR><BR>فقد أسس حزب البعث الأساسي في سورية والعراق على يد مجموعة من السوريين من أمثال: زكي الأرسوزي، وميشيل عفلق، وصلاح بيطار، وجميعهم ممن درس وتعلم وتبنى الفكر الشيوعي والاشتراكي، فميشيل عفلق مثلاً ولد سنة 1912م، ودرس في الثانوية الكاثوليكية بدمشق، وأتم دراسته في باريس، واطلع على أعمال ماركس وديستوفسكي وغيرهم. <BR>وساهم عام 1934 بتأسيس مجلة (الطليعة) مع الماركسيين، ثم أسس مع زميله صلاح بيطار منظمة سرية باسم (شباب الإحياء العربي)، ثم أسسا فيما بعد حزب البعث العربي. <BR><BR>أما زكي الأرسوزي، فولد عام 1900 في لواء اسكندرونة، وتأثر بفكر ديكارت وكانط، وعمل فيما بعد بنشر أفكاره بين زملائه في الدراسة. <BR><BR>يقول ميشيل عفلق: "الدولة الدينية كانت تجربة في القرون الوسطى، وتجربة انتهت بالفشل، وكلفت البشرية كثيرا من الجهود ومن الدماء ومن المشاكل، وحدثت تقريباً في أوقات متفرقة في البلاد الإسلامية وفي أوروبا المسيحية.. الإسلام كان محرك العرب، أما اليوم فالقومية وحدها هي الأساس، ولا يمكن أن يفهم العرب لغة غيرها". <BR><BR><BR><font color="#0000FF" size="4">انتهاء حزب البعث العراقي بعد الاحتلال:</font></br><BR><BR>مع اكتمال احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، أعلن الجنرال تومي فرانكس عن حل حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم في العراق بعد 25 سنة من الحكم تقريباً، وطلب في التصريح الذي بثته إذاعة أمريكية باللغة العربية من المواطنين العراقيين أن يجمعوا ويعيدوا أي مادة لها علاقة بحزب البعث أو عملياته، مؤكداً على أن هذه الوثائق تعد جزءاً مهماً من وثائق حكومية عراقية.<BR>وأضاف التصريح أن: أملاك حزب البعث يجب أن تسلم إلى سلطة الائتلاف المؤقتة، وأنه يتعين على كل شخص يمتلك وثائق متعلقة بحزب البعث أو الحكومة العراقية أن يحافظ عليها ويحميها ويسلمها للائتلاف.<BR><BR>وبعيد هذا الانتهاء للحزب الحاكم بدأت الأنظار تتجه إلى الشقيق غير الأخ من نفس الحزب، والموجود على رأس الحكم في سورية. <BR>وبدأت عمليات الضغط المتواصلة على سورية باتهامها بامتلاك أسلحة دمار شامل تارة، وتارة بمد المقاومة العراقية، وتارة بفتح المجال أمام المقاومة العربية للتسلل إلى العراق، وأخرى بتبني أحزاب مقاومة عربية تعمل ضد إسرائيل وأمريكا. <BR>وبعد جولة من الزيارات قام بها مجموعة من القادة الأمريكيين إلى سورية، من بينها زيارة وزير الخارجية الأمريكي كولن باول، ظهرت في الأفق السوري جملة من المتغيرات السياسية التي تنبئ بموافقة غير معلنة على أجندة الطلبات الأمريكية. <BR><BR>أغلقت مكاتب المنظمات الفلسطينية في دمشق، توقفت سورية عن التصريحات الحادة ضد إسرائيل، أغلقت منافذها الحدودية مع العراق لمنع تسرب المقاومة العربية للعراق، وتخلصت من بعض القادة العراقيين الموجودين فيها (كما كشف سكرتير الرئيس العراقي السابق عبد الحميد المحمود بأنه كان هو ونجلا صدام -قصي وعدي- في سورية قبل أن تطلب السلطات منهم مغادرة الأراضي السورية). <BR>إلا أن الأهم من ذلك، تلك التغيرات التي حصلت على الساحة الحزبية البعثية في سوريا. <BR><BR><font color="#0000FF" size="4">التغيرات الجديدة في الحزب السوري:</font></br><BR><BR>لا بد أن التغيرات التي طرأت مؤخراً على الحزب البعثي في سورية تدل على أن شيئاً ما سيحدث لهذا الحزب في المستقبل القريب، خاصة وأن التغيرات جاءت (بالجملة) وبشكل متوال، ذلك أن سوريا لم تعهد منذ أكثر من 30 عاماً تغيرات في الأفكار الحزبية والمعتقدات والممارسات التي تدرس بشكل يومي بسوريا. <BR><BR>أولى هذه المتغيرات جاءت بإعلان سوريا عن إيقاف تدريس مادة (التربية العسكرية)، وإلغاء برامج ودروس المادة العسكرية المقررة في المناهج التعليمية للطلاب والطالبات في سورية، كما جرى الاستغناء عن اللباس العسكري الموحد لجميع طلاب وطالبات المدارس المتوسطة والثانوية، واستبداله بألوان أخرى اعتباراً من مطلع العام الدارسي الذي يبدأ في سورية منتصف أيلول سبتمبر القادم .‏‏<BR>كما اختلفت طريقة الانتخابات في المجالس الشعبية والبلدية وفق لوائح تضمن حصول الجبهة الوطنية التقدمية (وهي الجبهة التي تضم أحزاباً معارضة لحزب البعث الحاكم) على الأغلبية التي تخولها إدارة دفة الأمور في المجالس التشريعية والتنفيذية والنقابية ومن في حكمها، ‏‏وسجلت أيضاً لغة جديدة تحت قبة مجلس الشعب السوري حيث انتقد النواب بشكل لافت أداء الحكومة ومؤسساتها الحزبية، حيث وصل الأمر إلى انتقاد بيان رئيس الحكومة نفسه. <BR><BR><font color="#0000FF" size="4">فصل الحزب عن الدولة:</font></br><BR>ولم يستمر الأمر حتى ظهر القانون الجديد الذي يفصل حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم عن التصرف في أمور الدولة والحكومة، من خلال مبدأ فصل الحزب عن الدولة. <BR>حيث بدأت القيادة السياسية السورية عملية الفصل بين العمل الحزبي ‏‏والعمل الحكومي ‏ في البلاد، وتحديد العلاقة بين حزب البعث العربي الاشتراكي (قائد الدولة والمجتمع حسب المادة الثامنة من الدستور السوري) والحكومة.‏ <BR>وأشارت دوائر سورية متابعة للشأن الداخلي إلى أن القيادة السورية حددت دور حزب البعث بالتخطيط والإشراف والتوجيه والمراقبة والمحاسبة، وعدم تكليف الحزبيين ومؤسساتهم الحزبية بمهام تنفيذية أو بالعمل المؤسساتي والإداري والدوائر الحكومية.<BR> كما أشارت إلى أن ثمة توجهاً لدى القيادة السورية نحو اختيار الأكفأ والأفضل بين المواطنين وفق أسس محددة، وبغض النظر عن الانتماء السياسي‏، حيث كان يتم التعيين حسب الانتماء الحزبي فقط، دون النظر إلى الكفاءات، ‏‏وهذا القرار الذي أصدرته القيادة القطرية للبعث، و حمل الرقم (408)، وهو الأول من نوعه منذ وصول حزب البعث إلى السلطة في سورية عام 1963م،‏‏ وقد تضمن القرار أربعة مواد صريحة، المادة الأولى تقضي بـعدم التدخل في عمل المؤسسات والمديريات ودوائر الدولة، وأن يكون دور الحزب القائد هو التخطيط والإشراف والتوجيه والمراقبة والمحاسبة، في حين تطالب المادة الثانية منه بـاختيار الأكفأ والأفضل بغض النظر عن الانتماء السياسي،‏‏ أما المادتان الأخريان فتنصان على أن ترشح قيادة الفروع إلى الجهات الحزبية في حين يقترح المحافظ إلى الجهات الحكومية، إضافة إلى وضع ضوابط للسلوك العام والشخصي للمسؤولين في الحزب والدولة، ‏ويشمل هذا القرار كافة مؤسسات الدولة السورية، ابتداءً من الحكومة ووصولاً إلى البرلمان والنقابات والمؤسسات العسكرية ...<BR> ‏ على أننا لن نفاجأ إذا سمعنا بعد مدة ليست بالطويلة عن مشروع قرار ثاني خاص بالحزب الحاكم في سورية أو بأي مؤسسة من مؤسسات الدولة (كالعسكرية مثلاً)، ذلك أن رياح التغيير عندما تهب –فجأة- فإنها تقتلع الأشجار الهزيلة التي أمامها.<BR><br>