أنت هنا

باكستان: من له في نهاية مشرف.. عبرة؟!
15 ذو الحجه 1428

يبدو درس "برويز مشرف" هام للغاية، للمحكومين والحكام، وللكتاب والمحللين السياسيين، وربما هو درس صالح لكل زمان ومكان، ومستنسخ من كل وقائع التاريخ الشبيهة!.
الآن، يمكن القول بأن "مشرف" ذهب إلى منفى "الرئاسة"، كخطوة أخيرة في رحلته إلى خارج حكم باكستان.
كل الدلائل تشير إلى ذلك، سواء المحلية منها أو الخارجية. على الصعيد الداخلي، لم يعد هناك من هو في صفه فعلياً، أو لنقل لم يعد هناك من يرى فيه "الأهلية" لأن يظل في موقع من المواقع المؤثرة في إدارة البلاد، إذ كل القوى المختلفة – المتعارضة والمتصارعة – لم تجمع على شيء، قدر اجتماعها على أن "مشرف" يجب أن يرحل، أو لم يعد بالإمكان إلا أن يرحل. أما القوى الخارجية الإقليمية والدولية، فهي الأخرى باتت تتوق إلى لحظة ترى الرجل فيها، بعد أن ارتدى زيه "المدني"، رئيساً، مغادراً إلى خارج الحكم بعيداً عن كرسي الرئاسة، أو لنقل أنها ترتب علاقاتها مع الداخل الباكستاني على أساس أن رحيل ذاك الرجل من سدة الحكم بات قدراً محتوماً!.
الذين أيدوه، مطلوب لهم العبرة، والذين صمتوا على كل ما فعله، لعلهم أخذوا العبرة، والذين قاوموه دون فعل يتناسب مع ما فعل هم بالتأكيد الآن، حصلوا على العبرة. الجميع الآن، بات يفهم عبرة استخدام "مشرف" لمرحلة ثم الاستغناء عن خدماته بعد أن احترق، باعتبارها قمة العبر أو عبرة العبر.

نقطة البداية!
في نقطة البداية لـ"مشرف"، وفي الطريق الذي شقه نحو النهاية، لا بديل أن يُشار إلى أن الرجل جاء إلى كرسي الحكم في بلد هو الأشد اضطراباً، وفي ظرف هو الأعقد من نوعه في تاريخ هذا البلد الإسلامي، الذي هو من الأصل عاش وما يزال يعيش في دوامة صراع مع الخارج، ربما يمكن القول بأنها من أشد أنماط الصراعات تأثيراً على اتجاهات التحولات والتغييرات الداخلية.
فباكستان التي هي بلد طرفي "معزول" عن بقية جسد الأمة، يواجه صراعاً مع بلد "ضخم" القدرة والإمكانيات، كان هو ذاته جزءاً منه، أي الهند، كما هو مجاور لبلد المليار وربع المليار إنسان، أي الصين، وفي ذلك لم تهبه الجغرافيا السياسية إلا أفغانستان، التي هي الدولة الإسلامية الوحيدة المجاورة له، والتي هي المكمل لأمنه القومي الاستراتيجي والجزء الحيوي المكمل له. أفغانستان لباكستان هي بلد منه، ومكمل له، ودونها لا يحيا وسط الديناصورين الهندي والصيني بقدراتهما ما توفره لأمنهما القومي مقومات الجغرافيا الواسعة الأرجاء.
وفي نقطة البداية، فإن معركة باكستان مع جارها الخصم – الهند – لم تتوقف يوماً منذ انقسام الهند واستقلال باكستان. دخلت باكستان حرباً جديدة بعد حرب استقلالها، خسرت فيها بنجلاديش، التي كانت جزءاً من الدولة والمجتمع الباكستاني بعد الاستقلال، وكان لانفصالها عنه إضعافاً لقدرات الدولة الباكستانية. كما باكستان ومنذ يومها وهي تكافح لبقائها وبقاء كشمير جزءاً منها؛ إذ جزء من كشمير تحت الاستعمار الهندي، بما يجعل الصراع الهندي الباكستاني متجدداً.
ووفقاً لمحددات ومهددات الأمن القومي الباكستاني تلك، فإن هذا البلد، كان متحالفاً مع خصوم الهند خلال الحرب الباردة، ولذا نمت علاقاته مع الولايات المتحدة، كما شهدت علاقاته مع الصين انعطافة قوية ما بعد الخلاف الصيني السوفيتي لمصلحة العلاقات الباكستانية الصينية. كما أن هذا البلد من الجانب الآخر، كان دوماً متطلعاً إلى ارتباط استراتيجي مع أفغانستان، بكل عوامل الارتباط، ومن ضمنها أن الجغرافيا الباكستانية مقارنة بالعملاقين الهندي والصيني، لا تملك مقومات الصمود الاستراتيجي إلا بإضافة الأرض الأفغانية إلى الأرض الباكستانية، والقوة الأفغانية إلى الباكستانية.
وهكذا جرت وقائع المحافظة على مقومات الأمن القومي الباكستاني منذ نشأة باكستان، حتى جرت وقائع الغزو والاحتلال السوفيتي لأفغانستان، وفي ذلك لم يكن لباكستان أن تعرف التردد في المواجهة أو تشكيل التحالفات لإنقاذ أفغانستان. كان الغزو بمثابة حصار سوفيتي لباكستان (الموالية للغرب) بالتنسيق مع الهند، التي كانت وقتها ضمن وداخل إطار التحالف مع الاتحاد السوفيتي، فكان الغزو ضربة لباكستان في أخطر مقومات أمنها القومي الاستراتيجي وتطويقاً لها من الجانب الآخر، هو كان بمثابة تطويق سوفيتي للصين التي كانت قد خطت خطوات بعيدة في العلاقات مع الولايات المتحدة.
جرى الصراع في أفغانستان باكستانياً بامتياز، وفي ذلك تراجع الصراع حول كشمير، كما بات النفوذ الأمريكي في باكستان في حالة تزايد، حتى انتهت حرب أفغانستان وانتهى بعدها وبسببها – ولأسباب أخرى طبعاً – الاتحاد السوفيتي، وتحول العالم إلى نمط آخر جديد من توازنات القوة والقدرة.
ارتسمت ملامح عناصر القوة الاستراتيجية لباكستان في المرحلة الجديدة، من خلال امتلاك السلاح النووي، وعلى أساس تولي حركة طالبان الحكم في أفغانستان وهي الأقرب إلى باكستان من كل ما عداها، كما تعمقت الصلات الاستراتيجية مع الصين، وعادت قضية كشمير إلى التفجر مجدداً، لكن أحداث 11 سبتمبر 2001 عاجلت باكستان بأخطر مما عاجلت وأثرت على غيرها، وقعت باكستان تحت ضغط من الأعداء والحلفاء معاً:
الهند، التي كانت سابقاً، بمثابة الخصم للولايات المتحدة، تحولت إلى التحالف مع الولايات المتحدة.
والأخيرة التي كانت داعمة لباكستان في مواجهة الهند، صارت هي من تحتل أفغانستان ضاربة عرض الحائط بمعاملات الأمن القومي الباكستاني، إذ هي أطاحت بحليف باكستان في أفغانستان (طالبان)، وأحلت محلها في الحكم، "خصماً" لباكستان، كما الولايات المتحدة، باتت هي "الضاغط" على الحكم في باكستان تحت زعم الحرب على القاعدة واتهاماً لها بمساندة طالبان.
وكانت تلك هي بداية سيرة "مشرف"، الذي قبل بالتحالف مع الولايات المتحدة التي تضغط عليه!، وتحتل أفغانستان التي هي أحد عوامل أمنه القومي!، وتتحالف مع الخصم الاستراتيجي لباكستان (الهند)، فكان بذلك خارج إطار الرؤية السابقة للأمن القومي الباكستاني ومهدداته!.

الرضوخ..
رضخ "مشرف" للضغط والشروط الأمريكية، كما هو تحت الشعور بالمأزق الاستراتيجي في أفغانستان سار نحو إضعاف ملامح الصراع مع الهند، التي لم تكتف في تقدمها في مواجهته بتعزيز دورها في كشمير، بل هي طورت هجومها باتجاه محاصرة باكستان من أفغانستان ذاتها، فصارت ضمن التحالف الداعم للحاكم الأمريكي في أفغانستان، سعياً لتطويق باكستان في كل الاتجاهات، فلم يعد أمام مشرف إلا الصين.
وهكذا إذ برر "مشرف" رضوخه وتغيير سياساته وتحالفاته، والخروج على مقومات الأمن القومي الباكستاني، بالحفاظ على القدرة النووية الباكستانية، فإنه في واقع الحال كان داخلاً إلى خطوط صراع داخلي مع بعض مؤسسات الدولة، ومع الكتل الوطنية، وبطبيعة الحال مع الحركة الإسلامية بكافة فصائلها واتجاهاتها ليدخل بقدميه إلى دائرة يزداد إحكامها حول عنقه.
فهو برضوخه للضغوط الأمريكية صار يضعف وتضعف معه عوامل القوة الباكستانية، بما يدفع الولايات المتحدة لتكثيف ضغوطها عليه. وهو بمناورته في تخفيف ملامح الصراع مع الهند صار يدفع الهند إلى مزيد من التحركات الساعية إلى خنقه وتحقيق مكاسب استراتيجية على حساب باكستان، وهو بتخليه عن مقومات الأمن القومي الباكستاني وبرضوخه للولايات المتحدة والهند، صار يهيئ كل السبل ويوفر كل المقومات أمام المعارضة الإسلامية في الشارع الباكستاني للثورة ضده، خاصة؛ لأنه في رضوخه أمام الولايات المتحدة والهند، صار يشن حرباً على كل مناشط العمل الإسلامي في داخل باكستان، كما صار يمارس سياسة "مجنونة" تجاه مناطق القبائل المحتفظة بنقاوة ارتباطها بالإسلام، والتي لا تنظر لأفغانستان وما جرى فيها ولها، كمجرد حالة من حالات الإضرار بالأمن القومي الباكستاني، بل تخلياً عن جوانب عقائدية، إضافة إلى أن التمازج والتداخل بين تلك القبائل الباكستانية ونظيرتها الأفغانية، قد أدخل عوامل جديدة في تأجيج الصراع ضد "مشرف".
وهكذا تحولت الرؤية لـ"مشرف" من أنه قائد جيش تحرك لإنقاذ باكستان، إلى مجرد ضابط مرتبط بالمفاهيم الغربية (علماني)، ومفرط في ثوابت الأمن القومي ومهدد للمجتمع، ومتحالف مع عدو الإسلام الذي يشن حرباً عليه معتقداً وأمة، كما هو في ذات الوقت، بات يفقد مكانته وقدرته على الوفاء بالمتطلبات الأمريكية، بما دفع الولايات المتحدة إلى البحث عن حلفاء جدد لها في باكستان، فكان أن قدمت "بي نظير بوتو" بديلاً سياسياً لحكم "مشرف"، فأعادتها إلى البلاد اتفاقاً مع "مشرف" وضغطاً عليه، وكان أن عاد إلى البلاد "نواز شريف" الذي سبق أن انقلب عليه "مشرف" وقت أن كان رئيساً للوزراء، وذلك في وقت تصاعد فيه العمل المسلح ضد "مشرف" في مناطق القبائل وباتت تسود الشوارع الباكستانية المظاهرات الغاضبة، وفي ذلك أصبحت أجهزة الدولة الباكستانية ذاتها، لا ترى "مشرف" قادراً على مواجهة التطورات الجارية. انتهى الأمر بـ"مشرف" أن أصبح وحيداً تقريباً، فخلع بزته العسكرية وترك الجيش إلى غيره، ليصبح هو رئيساً "فخرياً" لباكستان، تمهيداً للذهاب إلى عالم النسيان.

وفي ذلك عبر
وفي ذلك عبر:
فالذين خدعوا في لعبة الانقلاب العسكري، لعلهم الآن اعتبروا مما فعل "مشرف"، إذ حكم العسكر هو حكم لا يمكن لأحد أن يحدد اتجاهاته إلا من اعتلى المرتبة الأعلى وحيداً منفرداً.
والذين أيدوه من منطق الحرص على باكستان من صراعات النخب السياسية الفاسدة لعلهم اعتبروا الآن، حيث مثل هذا الرجل "الغامض" في بدايته، لم يكن واجباً تأييده إلا وفق وضوح لبرنامجه السياسي، وأن البديل للنخب الفاسدة هو تجديد النخب لا اللجوء إلى خيارات المجهول، وأنه كان مطلوباً حين ظهرت توجهاته أو حين بدأ تقديم التنازلات للولايات المتحدة، أن يجري التحول لمجابهته من فور بروز تلك التوجهات دون انتظار حتى فعلت تلك التوجهات فعلها وأضعفت باكستان إلى درجة أن الولايات المتحدة بات بعض المسؤولين فيها يصرحون بأنهم رصدوا ميزانيات لحماية المنشآت النووية الباكستانية، أو لنقل لإحكام السيطرة على مقدرات باكستان الاستراتيجية.
والذين قاوموه دون فعل يتناسب مع ما فعل، هم الآخرون فهموا العبرة، من ضرورة أن تجري المقاومة بقدر الخطر الذي يتهدد البلد المعني، دون تردد أو وجل، إذ مقاومتهم "المترددة" لم تفعل شيئاً سوى أنها مكنت "مشرف" من استخدامها كورقة من أوراق المساومة مع الولايات المتحدة، أو لنقل أن هذا النمط من المقاومة غير القادرة على تغيير السياسات لم يكن متناسباً مع حجم المخاطر التي ألمت بباكستان على يد "مشرف".

إلى أين
المهم الآن، أن آخر المناورات الاستراتيجية لـ"مشرف" لم تكن أقل في مخاطرها على باكستان مما فعل من قبل. فضمن إطار الرؤية السياسية التي تحرك من خلالها "مشرف" في التعامل مع الأطراف الخارجية خاصة الولايات المتحدة والهند، وفي نظرته إلى حجم التحديات التي واجهها نظامه، جاءت خطته الاستراتيجية الجديدة غير بعيدة عن ما فعل منذ وصوله إلى الحكم.. وحتى تلك المناورة.
فمشرف حين قبل بالتحالف مع "بوتو" وبعودة "شريف"، وحين رضخ لفكرة "عودة" الديموقراطية!.. لم يفعل كل ذلك إلا من أجل قطع الطريق على تحول الحركة الإسلامية إلى قوة قادرة على تغيير المرتكزات التي أرساها منذ استولى على الحكم وحتى تلك المناورة.
من مناورته استهدف "مشرف" مواجهة تهديد العمل المسلح الجاري في الأطراف، بجذب الأنظار والجمهور إلى الديموقراطية في المركز، لتقليل الزخم السياسي والجماهيري بشأن ما يجري في الأطراف – والذي هو مهدد بتفكيك باكستان بالفعل إذا لم يجر على أسس التغيير في البلد كله – ومنع الأطراف من التحول باتجاه السيطرة على المركز أو على السلطة السياسية المركزية في البلاد.
وهو من جانب آخر، حاول شق صفوف الحركة الإسلامية مجدداً، بجعل قطاع منها قابل للمشاركة في اللعبة الديموقراطية، ليستخدم كغطاء سياسي لضرب القطاع الذي حمل السلاح ضد "مشرف".
وهو في كل ذلك، لا يفعل شيئاً لتغيير الواقع الذي شارك في فرضه في أفغانستان، حتى تحولت من حليف طبيعي واستراتيجي لباكستان إلى شوكة في خاصرتها، كما هو لا يفعل شيئاً في مواجهة ما "أنجزه" من تغول للنفوذ الأمريكي في باكستان، وإنما هو يظل مستهدف الحركة الإسلامية في باكستان، التي أصبحت هي نقطة التقاؤه مع الولايات المتحدة والهند أيضاً!.
لكن أقدامه قد قادته إلى دائرة تضيق حول عنقه، إذ هو انعزل عن شعبه، وأهدر مقومات الأمن القومي لوطنه، وانحنى للضغط الخارجي إلى درجة التحالف ضد قوى داخلية، فصارت مصلحة الدولة والمجتمع.. أن يغادر، ومصلحة الخارج أن يغادر، وهنا تجري وقائع معركة أخرى، يجري إطفاء الأنوار عنها، لا علاقة لها باللعبة الأمريكية.