أنت هنا

مثال للغلو في الجفاء : القرآن ليس كله كلام الله!
15 ذو الحجه 1428

إحدى الصحف نشرت قبل مدة قصيرة كلاماً مؤداه أن ليس كل ما في القرآن من كلام الله، واستدل الكاتب على دعواه بالآية: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) (آل عمران: من الآية36)، وقال هذا ليس من كلام الله، هذا من كلام امرأة عمران، ثم زعم أن الله تعالى ساق هذا الكلام في مقام النعي!
وهذا ضرب من الغلو الفكري الذي لا يتفطن له الناس كثيراً.

ومخطئ من يظن أن الغلو وجه واحد فقط، بل هناك غلو في الطرف الآخر.. فالإفراط غلو والتفريط غلو؛ الذين يفجرون في البلاد غلاة، الذين يكفرون العلماء غلاة، وفي الوقت نفسه هؤلاء المفرطون المتجاوزون لحدود ثقافتهم غلاة... وقد تجاوز الأمر ما حاوله هذا الكاتب فقد سمعت بأذني أحد أساتذة كلية الشريعة يقول: قام طالب في الكلية وقال: يا شيخ دخلت على موقع يديره أناس من أهل هذه البلاد، قرأت فيه مقالا لأحدهم يقول فيه: إن كان الله موجوداً فكذا وكذا!
إن الذين يقولون في دين الله هذا الكلام، ويجاهرون في صحفنا بنحو ما ذكر يجب أن يحاكموا ويعاقبوا كما عوقب أولئك.
فعلى ما في كلام هؤلاء من غلو ربما انضاف إلى ذلك إثم آخر وهو تسببهم في إرهاب الغلاة المذموم، فإن من أسباب هذا الغلو غلو الجفاة والمنافقين والمعتدين على دين الله.
وعوداً إلى ما ذكر الكاتب، أقول هذا الكاتب يريد بتقسيمه القرآن إلى كلام الله وكلام لغير الله أن يفتح المجال لنقد ما زعم أنه ليس بكلام لله.

وقد أساء في تعبيره يوم زعم أن بعض القرآن ليس من كلام الله، بل القرآن كله كلام الله، ومن زعم أن الله لم يتكلم بحرف من القرآن فقد جنى وأي جناية، وهل يزعم -من يدرك ما يقول- فيمن قال: "قال فلان كذا" أنه لم يتكلم؟! وهكذا كلام الله قد يقع خبراً عن بعض خلقه، وإخباره عن خلقه لا ينافي أن الله هو المتكلم بهذا الإخبار، وعلامة هذا أن يذكر نص القول أو ما يؤدي معناه فيقول الله تعالى قال.. أو قالت ونحو هذا، فالله هو الذي قال: (قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني)، وامرأة عمران لم تقل هذه الجملة: (قالت امرأة عمران رب ...)، بل هذا كلام الله الذي نزل بلسان عربي مبين يخبر فيه عن قول امرأة عمران العبرانية، وهذا كله على قول من يقول إن قوله: (وليس الذكر كالأنثى) من إنشائها.
وكذلك يقال في قول الله تعالى: (قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) هو كلام الله تعالى أخبر فيه بقول إبليس.
ولسنا في حاجة إلى من يدعو إلى ضرورة التفريق بين كلام الله وبين ما أخبر به في كلامه عن إبليس، ومن سفه العقول أن يرى نفسه قد جاء بجديد لم تستطعه الأوائل ذلكم الغر الجاهل الذي يرى أهمية التنبيه على شأن لا يخفى على الصغار والأطفال!
وكذا كل إخبار منه سبحانه وتعالى لا يخلو فإما أن يجيء في معرض إنكار أو يجيء في معرض تقرير.

فإن جاء في معرض الإنكار علمنا أن الله ينكر قول من أخبر عنهم، كما في قوله تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ)، وإن جاء في معرض ثناء وتقرير علمنا أنه إقرار منه سبحانه وتعالى للمقول فقول الله تعالى: (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى)، على قول من قال إن قوله: (وليس الذكر كالأنثى) خبر عن قول امرأة عمران وليس تبعاً لجملة: (والله أعلم بما وضَعَتْ) على قراءتنا –وهي قراءة الجمهور-، فعلى القول الأول فما أخبر به الله من قولها هو قول أقره الله، وساقه مساق المدح للآل الذين اصطفاهم، ولهذا قال قبلها: (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين)، أما على القول الآخر عند المفسرين القاضي بأن هذا كلام من الله مبتدأ وليس خبراً عن قول امرأة عمران فيعد إنكار الكاتب له ونعيه عليه جرماً عظيماً جللاً.

وأياً ما كان فقد أتى الكاتب باقعةً يوم حاول أن يدلف إلى نقد نص قرآني بدعوى أن الله لم يقله! بل الله قاله وقوله قد يكون خبراً عن محصل قول قائل ربما لم يعبر قائله بلغة العرب أصلاً، وقد يكون ابتداء منه سبحانه، ثم إن القول المخبر فيه عن قول قائل إما أن يكون في سياق إقرار أو لا يكون.
وزاد الكاتب على سوء التعبير تخليطاً يوم زعم أن الله ساق هذا القول في سياق النعي، مع أن السياق ظاهر في المدح والإقرار.
ولو لم يكن شيء من ذلك أكان لعاقل أن يجادل في قول القائل: ليس الذكر كالأنثى؟
فهل المتصف بصفة الذكورية كالمتصف بصفة الأنوثة؟
وأين معنى هذا من معنى هذه؟
ألهذه الدرجة استغلق على بعضنا الفهم والإدراك حتى استبهم الواضحات؟
أقول لم يكن الكاتب موفقاً في التعبير الذي عبر به ولا في المثال الذي مثل به وكان يسعه أن يمثل بأمثلة أظهر كما ذكرنا هنا، ولكنه أراد أن يدلف من الباب الذي مهد له بثرثرة ثم فتحه إلى نقد ما لا يوافق هواه أو أهواء الغرب الذين أشربت قلوبٌ بحبهم والافتتان بهم دون تمييز لما يصدر عنهم نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، والله المستعان.