أنت هنا

باكستان نموذجا..العسكر عندما يحكمون!!
25 شوال 1428

منذ انتهاء عصر الخلافة الراشدة، عرف المسلمون حكاما صالحين نسبيا وآخرين فاسدين متجبرين أو ضعفاء مغلوبين على أمرهم من محيطهم وأحيانا من مماليكهم وجواريهم!! غير أن شر نوع من الحاكمين في مختلف العصور كانوا هم العسكر الذين تسلطوا على رقاب الأمة بلا مؤهلات لديهم سوى البطش بالناس وإذلالهم وتجويعهم.
واستفحلت ظاهرة العسكر المتحكمين برقاب العباد في العصر الحديث، بتأثير دور القادة العسكريين في تحرير بعض البلاد الإسلامية من سيطرة المحتل الأجنبي، وهو دور ملتبس لما يكتنفه من شكوك وشبهات حول الدور الفعلي لكثير من هؤلاء، في شبه صفقات مع "المستعمر" الذي أراد الاطمئنان على مصالحه بعد اضطراره إلى إنهاء وجوده العسكري المكشوف.
إن تلك هي السمة الغالبة لأداء هؤلاء في مقاعد السلطة، حتى لو غضضنا الطرف عن عوامل الريبة فيهم، فقد جروا على الأمة هزائم نكراء، واستبدوا بمصيرها، ونهبوا ثرواتها، ومارسوا في كثير من الأحيان قمعا لم يبلغه المحتل الكافر من قبل. فمعضلة الأمة معهم-باختصار-أنهم أخفقوا في مهمتهم الحقيقية (الدفاع عن البلاد في وجه العدو الخارجي) وتسلطوا على ما لا يتقنونه في السياسة والإدارة.
غير أن حال باكستان مع جنرالاتها أشد مرارة من الحالة المريرة العامة للشعوب المسلمة التي شهدت هيمنة الضباط على مقدراتها؛ فقد قامت باكستان الدولة قبل تأسيس جيشها الوطني، وتبعا لذلك لم يكن متوقعا أن يقوم الجيش الباكستاني بغير واجب الجيوش المحترفة. لكن الواقع جاء على نقيض ما ينبغي أن يكون، إذ استولى العسكر على الحكم في أغلب الفترات منذ نشأة انفصال باكستان عن الهند عام 1947م، وتسببوا في هزائم عسكرية شنيعة انتهت إحداها بانفصال بنجلاديش (باكستان الشرقية سابقا). وفي السياسة الداخلية أبقوا هذا البلد منهكا وعاجزا عن التقدم بالرغم من وفرة إمكاناته البشرية والاقتصادية، فلم يدعوه لإقامة نموذجه الإسلامي الذي كان مبرر استقلاله عن الكثرة الهندوسية، ولم يفسحوا له في المجال ليؤسس نظاما مدنيا شبيها بالجارة اللدودة(الهند).
وها هو الجنرال برويز مشرف يضاعف من محنة باكستان، منذ قفزه إلى موقع القيادة عبر انقلاب عسكري قبل سبع سنوات، فيتجاهل مستقبل الشطر المحتل من كشمير-وكانت سمعته قد بنيت على ضراوته في مواجهة الهنود هناك!!-، ويتقارب مع نيودلهي بلا ثمن مقبول، ويوظف باكستان حاضرا ومستقبلا في خدمة المخططات الأمريكية المشبوهة في شبه القارة الهندية، بالرغم من أن واشنطن تقيم تحالفا استراتيجيا مع الهند، التي تعد إسلام أباد عدوها الأول، إن لم يكن الوحيد في ضوء قدرات الخصم التاريخي متمثلا في الصين الشيوعية.
هذا ما يجري اليوم علنا، في حين كان يتم سرا في حقبة الحرب الباردة، عندما كانت نيودلهي حليفا للاتحاد السوفياتي البائد، وكانت باكستان حليفا مخلصا للعم سام، فجازاها جزاء سنمار.
صحيح أن في باكستان جيوبا لا يستهان بها من غلاة التكفيريين، لكن التصدي لانحراف هؤلاء لا يتم بقمع الشعب، وفرض حالة الطوارئ، بل إن التجارب المتكررة أثبتت أن مثل هذه السياسات هي البيئة النموذجية لاستشراء الفكر الضال، الذي يتغذى على المظالم ويزيف قراءتها لكي تخدم تصوراته البغيضة المخالفة لدين الله عز وجل.
وإلا فكيف يمكن تسويق أسطورة مشرف اليوم، وهو يفصل قضاة المحكمة العليا من مناصبهم،فما الصلة بين هذا القرار التعسفي، ومكافحة التطرف؟؟!
إن مشرف كان خائفا من حكم القضاة ضده لجمعه بين قيادة الجيش ورئاسة الدولة، فبادر إلى خلط الأوراق بضربة وقائية (على غرار سياسة البيت الأبيض في ظل بوش الابن صاحب نظرية الحروب الاستباقية).
وثمة قراءة أخرى تفسر انقلاب مشرف الجديد على انقلابه القديم، تشير إلى محاولته التحلل من الصفقة التي فرضها الأمريكيون عليه إعادة بينظير بوتو وتقاسم الكعكة معها، في حين توحي مؤشرات معاكسة إلى أن تمثيلية حالة الطوارئ تهدف إلى تثبيت الصفقة بدون منغصات بعد لجم كافة القوى المعارضة له ولها ولصفقتهما المريبة، بدليل أن الإدارة الأمريكية كانت على علم بقرار الجنرال، بالرغم من تظاهرها بالامتعاض لكي تحافظ على بقايا مزاعمها بدعم الديموقراطية!!
وفي أي حال، يبقى الشعب الباكستاني المسلم هو الخاسر الأكبر من كل هذه الألاعيب والسيناريوهات المفتعلة، ولن تستقر باكستان وتتبوأ ما تستحقه من مكانة، ما لم تجبر الجيش نهائيا على التزام ثكناته، وعدم الخروج عن واجبه الوطني في الذود عن حمى البلد وليس القفز على موقع زعامته السياسية.