أنت هنا

اضطهاد "الإسلاميين" لـ"المسيحيين".. فزاعة علمانية
5 رجب 1428

ثمة إشكالية تفرض نفسها في الصعيد الفكري كلما اقتربت انتخابات في بلد ما يتماس فيه المسلمون مع غيرهم لاسيما "المسيحيون" فيهم، من خلال سؤال صريح حول ماهية تعاطي "المسيحيين" مع الإسلام سواء في البلدان الإسلامية أو في غيرها، وحول استعدادهم للتعايش معه أو التكيف في حياة بكنفه..
هل يخشى بعض "المسيحيين" أو معظمهم ـ سواء ـ من الإسلام ذاته أن يحكمهم أم يخشون من ممارسة المسلمين لشعائرهم وأحكام دينهم بشكل يتجاوز رحمة الإسلام ذاتها ورحابة أفقه؟ ثم تالياً، هل ينظر هؤلاء للأحزاب والحركات الإسلامية كحالة استثنائية تفسر الإسلام بشكل يراه هؤلاء منتقصاً من حقوقهم، وبالتالي يكون رفض طائفة منه لأي حديث عن صعود تيار إسلامي خشية أن يُستلب "المسيحيون" بعضاً من حقوقهم؟
التاريخ لا يشاطر "مسيحيي الشرق" مخاوفهم؛ فهم قد عاشوا قروناً ينعمون بطيب العيش في ظل دول إسلامية لم تعاملهم يوماً كطائفة منزوعة الحقوق مستلبة الإرادة والخصوصية، بدليل أنهم احتفظوا بهذه الخصوصية وحافظوا على وجودهم في وقت لم يكن في أوروبا غير دين واحد لم يتدفق إليه المهاجرون المسلمون ـ في غير الفتوحات أو البلدان ذات التاريخ الإسلامي في أوروبا ـ إلا عندما تحررت أوروبا نوعاً ما من منطق محاكم التفتيش والتهجير القسري (وإن ظل موجوداً حتى اللحظة ولكن في البلقان كأظهر دليل على استمراره في أوروبا).
ومع أن التاريخ حاكم هنا، غير أننا لا ننكر أن كثير من "المسيحيين" رغم هذه القرون ما زال يتخوف من عودة الدين كمهيمن على المنطقة الإسلامية، وكثيراً ما تعلو الأصوات منهم منزعجة من تحول هذا البلد أو ذاك إلى بلد تحكمه الشريعة الإسلامية.
هذه الأصوات قد تكون مدفوعة بعض الشيء بممارسات خاطئة وقعت فيها حركات إسلامية في التعامل مع الأقليات داخل العالم الإسلامي، لكن يظل هذا العامل استثناءً ومحدود التأثير قياساً بعامل آخر شديد الأهمية، وهو الأكثر تحفيزاً واستثارة نحو التفزيع من الإسلام، هو في الواقع العامل العلماني..
ونحن لا نشك أن القوى العلمانية النافذة في السياسة والإعلام والثقافة تسعى جاهدة لتثبيت هذا المعنى رغم تهافته العملي حتى في صعيد الجماعات المعتدلة أو حتى القوى الموصوفة بالإسلامية التي شاء الله لها أن تظهر أو تحكم بشكل أو بآخر في أنحاء من العالم الإسلامي أو تبرز كإحدى الأرقام السياسية والاجتماعية الفاعلة في دول إسلامية.
وبين أيدينا مثالان اثنان يدحضان شبهة العلمانيين حول اضطهاد "المسيحيين" القدري إذا ما حكمت أو اقتربت من الحكم أو ظهرت أحزاب وحركات إسلامية، أحدهما جاء من غزة، حينما زعمت أوساط علمانية فلسطينية أن حركة حماس قد استهدفت الكنائس أول ما وصلت إلى سدة الحكم عنوة بعد أن وصلته اختياراً، إذ سرعان ما هدأ رئيس الوزراء الفلسطيني إسماعيل هنية من روع "المسيحيين" في خطابه الذي ألقاه عقب أحداث غزة، وحفظ لهم فيه جميع حقوقهم وطمأنهم عليها، ومن جهته رد أحد قساوسة غزة عبر تليفزيون الأقصى ليقول: " حماس في الطريق.. حماس أهلنا.. حماس إخوتنا.. حماس حمتنا، وحماس حميناهم، وسنحميها وستحمينا".
أما الآخر، فطارت به وكالات الأنباء من قرية واقفلي الأرمنية في تركيا، حين قال عميد القرية بيرك كارتون: " حزب العدالة والتنمية حاول أن يساعد الأقليات بينما اكتفت أحزاب أخرى بالكلام." ومؤخرا، أيد الزعيم الروحي للأرمن الأتراك البطريرك مسروب الثاني الذي يقيم في إسطنبول حزب العدالة والتنمية الموصوف بأنه "حزب ذو جذور إسلامية" واعتبره أكثر اعتدالا في تعامله مع الأقليات وأكثر إنصاتا للمسيحيين، وقال خلال مقابلة مع مجلة "دير شبيجل" الألمانية إن المسيحيين الأتراك سيصوتون لهذا الحزب في الانتخابات المقبلة.
والأمثلة كثيرة، غير أن الأهم أن نجيب على هذا السؤال أولا: كم أسهمت العلمانية في تفزيع "المسيحيين" من الإسلام وحكمه؟ وإذا كانت المساهمة تلك كما نتوقع كبيرة؛ فعلينا أن نكشف الغطاء عنها ونقطع أطرافها، كي يبطل سحرها، ويدمغ باطلها فإذا هو زاهق، كما تزهق العلمانية كلها، التي لا تحمل إلا مفاهيم متهافتة لا تقوى على مناجزة المنطق ولا التاريخ.