أنت هنا

فولتير والسلطان.. رشدي والهوان
12 جمادى الثانية 1428

في أقسى درجات ضعف الدولة العثمانية وقريب من أيام انهيارها الكامل وتقسيمها، أزمعت فرنسا تمثيل مسرحية للكاتب الشهير فولتير تهاجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطار الخبر إلى الباب العالي، فأبرق سلطان المسلمين عبد الحميد الثاني منذراً فرنسا : " لو قمتم بتمثيل هذه المسرحية التي تستهدف رسولي صلى الله عليه و سلم ورسول جميع المسلمين فإنني سأثير جميع العرب وجميع المسلمين ضدكم".
الفرنسيون انزعجوا فأحجموا، ثم حاول الإنجليز فعاجلهم السلطان ببرقية مماثلة فارعوت عن غيها وطغيانها، رغم أن المسرحية كانت ستعرف طريقها للجمهور في أسوأ لحظات الوهن الذي أصاب الدولة العثمانية، لكنها لم تكن قد عدمت حميتها، ولا الناس كانوا عديمي الحماسة أو قليليها.
وقبل سنوات، كانت بريطانيا ـ كما عودتنا ـ سباقة إلى كل مجدف، وكل مهرطق ضد ديننا تسارع فيه، تحتويه وتقدم له الأمان وتبذل له المساعدة، فأسبغت على الجرذ الهارب سلمان رشدي صاحب الآيات الشيطانية، وهو الكتاب الذي سب ديننا ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ونشر قبل سنوات وأثار ضجة في العالم كله لم تهدأ إلا بالتقادم بعدما توارى الجرذ عن الأنظار وحظي بحراسة لا يتمتع بها كبار الساسة البريطانيين، لقب فارس ومنحته أعلى أوسمتها.
وبغض الطرف عن مفهوم الفروسية لدى البريطانيين، وما إذا كان يقترن بسباب الإسلام وكتابه ورسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم أم لا، متى كانت هذه الفروسية عنواناً للجبن والهلع والجزع من مواجهة الأعداء أو حتى الناس، فذاك أمر متصور ومفهوم من دولة كان جل همها على مر العصور أن تكسر أنوف المسلمين، ولا عجب أن يصدر الشكر والعرفان من ملكة بريطانيا للرجل الذي هزأ من دين المسلمين ومعتقداتهم، لكن المثير للغثيان في عالمنا الإسلامي العريض ألا يصدر عن عواصم الإسلام التي تربط معظمها بلندن علاقات وثيقة مظهر يتناسب مع مدلولات الخطوة البريطانية وتوقيتها..
لن نبحر في متاهات التوقيت وهذا النبش المتعمد من الملكة البريطانية في الماضي القريب وفتح ملف قد أغلق بعد فرار رشدي من المواجهة، لكننا ينبغي أن نبحث في ذواتنا، حكاماً ومحكومين في سائر بلدان العالم الإسلامي.. هل نفي لرسولنا الكريم ولكتابنا العزيز ولإلهنا الرحيم شيئاً مما تفرضه علينا المروءة قبل الإيمان، والحياء قبل المعتقد؟! فأين يذهب منا الخجل ونحن نعاود التعامل مع دولة تهين ديننا بهذا الشكل، فلا دعوة لمقاطعة ـ على أقل تقدير ـ ولا احتجاج مسموع، ولا تظاهرة واحدة، لا بل لا مشاعر غضب تنتابنا.. ألا يحدونا ذلك أن نراجع يقيننا وتصديقنا وحبنا تجاه هذا الدين العظيم؟! أن نحاسب أنفسنا على هذا الارتكاس القلبي.. أو على تدني طموحاتنا الأرضية التي تطمس كل معنى نبيل في حياتنا..
إنه بصدق أمر يحتاج لمراجعة ومحاسبة.. وهو من بعد مؤشر كبير على مدى الهوان الذي انسفلنا إليها فلم يعد ثمة ما يغضبنا أو يثير حفيظتنا فيما تمضي بنا السيارات إلى الأسواق التجارية لنغرق في حياة الاستهلاك المادي التي جرفت بطريقها معانٍ نبيلة عظيمة، كان يتحلى بها الأجداد أو حتى كان يتحلى بها السلطان عبد الحميد.. ذلك "الرجل المريض"!!