أنت هنا

البكاؤون على نصب الجندي المجهول
8 جمادى الثانية 1428

نحن لن نبحث المشكلة من جانبها العقدي، ولن نجادل في مسألة الأنصاب في هذا المقام، وإنما سنتحدث عن "الأزلام" الذين خرجوا من كل جحر للحديث عن "إنقلاب حماس" أو "الاحتلال الثالث لغزة" أو "حماسستان" أو عن النصب التذكاري للجندي المجهول الذي يشير بيده تجاه القدس الذي قيل إن حماس قد هدمته.
ليس الحديث هنا عن أنصاب النضال وإنما عن أزلام النظام والإعلام، الذين أمطروا حماس بوابل من قذائف الاتهامات فور صدور الأوامر بذلك من عواصم أغاظها ما قد صار في غزة هاشم.
ومن لازم الإنصاف والعدالة أن نقول إن حماس حركة شعبية نبتت من أرض طيبة ولم تنزل من السماء، وهي ـ وإن كانت تحمل هم هذا الشعب المهيض ـ لا تعدو أن تكون حركة إصلاحية مقاومة ينسحب عليها ما ينسحب على كل جهد إصلاحي بشري، يعتريه أحياناً اجتهاد خاطئ أو ممارسة متجاوزة، ولا ينفك الخطأ عن بني آدم ما بقي يسير في الأرض يعالج مشكلاتها ويؤثر في الناس ويتأثر بهم، وهذا كله يجعل مسألة التجاوزات واردة منها، ومقبولة أحياناً ما لم تبلغ حداً يفوق المنطق والمعقول، وهذا الاستطراد دافعه ضرورة عدم الغلو في أي مصلح أو حركة إصلاحية آنية، لأنها لو بلغت في بلائها الحسن ما بلغت فلن تجاوز حدود صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين ضربوا أروع الأمثلة في بلاد حلوا بها ومع هذا صار في سيوف بعضهم رهقاً وانتابتهم أحياناً بعض الهنات في طريق انتشارهم في البلاد.
غير أننا وللإنصاف ذاته والعدالة نفسها، نقول بنفس راضية، إن ما سُمي في إعلامنا العربي أحياناً بـ"انقلاب" غزة، هو من أنظف الانقلابات التي مرت بالمنطقة إن جازت التسمية، لا بل لا يقارن بأي حال بما تمارسه بعض الأنظمة التي هب إعلامها عن بكرة أبيها يلعن حماس وعمليتها الجراحية في غزة في حالة السلم لا الحرب التي كانت عليها حماس، وهل يمكن عقد المقارنات بين فئة تدافع عن نفسها ودولة متمكنة تحكم قبضتها على أعناق شعوبها!!
لقد أثار استغرابنا هذه النظرة الانتقائية أو العور الذي أصاب إعلامنا العربي حين لا يرى في السيطرة على مقرات الأمن في غزة إلا الجانب السلبي متجاهلاً في الوقت عينه ذاك الحنق الذي اكتسبته بعض قيادات هذه الأجهزة الأمنية للحد الذي جعل الناس في غزة توزع الحلوى عند فرارهم..
ثم أثار استغرابنا أكثر ألا يكون هذا الجانب السلبي سوى ممارسات تتجاهل عن عمد حقائق دامغة في مقابلها، فقالوا إن حماس قد هدمت نصب الجندي المجهول في غزة الذي يشير إلى القدس تذكيراً بضرورة تحرير الأقصى، ضاربين الصفح عن كل الإحصاءات التي تتحدث عن عدد شهداء القسام في نضالهم من أجل تحرير الأقصى، وكأن التعلق بالأنصاب عند القوم أولى من النضال الحقيقي، أو كأن الإشارة الصماء إلى القدس كفيلة بتحريرها، فما بال القوم كيف يحكمون.
وعجبنا أن يقال إن حماس قد احتلت غزة، وهي التي ساهمت بأكبر جهد من قبل في تحريرها ودفعت من دماء شهدائها بكل حبة تراب قطرة دم تستبدلها، فيما تيار الهزائم والتنازلات المهينة لم يبذل حتى قطرة عرق خارج الغرف الباردة..
ثم ما بال من سببوا الفلتان الأمني في غزة ثم استنجدوا بـ"إسرائيل" لدى هروبهم ما زالوا يتحدثون عن فتنة وعن انقلاب هم أول من أحدثوها وأحدثوه، وكلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها، ومن بعدُ يفيض الإعلام بغرائب الأحوال عن فتنة لا يزيدها اضطراماً في النفوس سواه!
كنا نتمنى ـ ولا نرجو ـ أن يكون إعلامنا العربي أكثر إنصافاً حين يتداول النشطاء على الإنترنت العديد من المقاطع المصورة التي تكشف الممارسات المشينة لهذه الأجهزة الأمنية التي تسلطت على رقاب العباد في غزة، فزادتها رهقاً على رهق الاحتلال، بينما هو دوماً غاض الطرف عن كل هذا ولا يلفت انتباهه، وكيف يلفته وبعضه بوق لأنظمة لا ترى فيما يعرض بأساً في التعامل مع شعوبها.. وألا ينظر هذا الإعلام بعين كليلة، شحيحة على الخير والإنصاف والعدالة؛ فإذا رأى من حماس زلة أو هفوة أو توهمها نفخ فيها وضخمها واستحضر من جعبته الكلمات الرتيبة التي مجتها الشعوب وسأمها العقلاء عن "الظلامية" و"التطرف" و "الإرهاب" و"الإمارة".. وقد كانوا قبل أيام يتحدثون عن حماس كحركة تمثل حكومة منتخبة ـ اضطراراً ـ لئلا ينكشفوا في عداء الفاعل الأكبر في المقاومة الفلسطينية.
إن النصب التذكاري ليس أكرم من الشهداء الذين قضوا نحبهم بسبب خيانة وغدر بعض النافذين في الأجهزة الأمنية البائدة في غزة.. حتى الكعبة شرفها الله ليست أعز على الله من دم مسلم ـ كما جاء في الحديث النبوي ـ أراقه هؤلاء الذين ائتمنوا على الأمن فلم يرعوه وضيعوه