أنت هنا

ضبط الفتوى ومسؤوليتها
11 جمادى الأول 1428

حين يضيق الناس ذرعاً بفتوى شاذة أو رأي باطل؛ فإنهم يذهبون اعتباطياً في مناحي مختلفة، كل يولي وجهه وجهة هي تناسبه، فأهل المعاصي ومدمنوها يرونها فرصة سانحة للحديث عن أنهم لم يعودوا يعرفون فروقاً بين حق وباطل لكثرة ما تتباين آراء العلماء حول قضية ما، وأهل الأهواء يتهامسون بأنهم سيتبعون أنفسهم هواها وينتخبون من الدين ما يوافق عقولهم، ويقعّدون المفاهيم التي تتفق وما يريد هواهم أن يوافقه، وأهل التغريب والعلمانية، يهتبلون فتاوى شاذة تصدر من أنصاف متعلمين أو لنقل أنصاف علماء ـ إن جاز التعبير ـ، ليقدحوا في الدين ذاته، ويخلطوا بين ثوابته ومتغيراته، وأصوله وفروعه، ومعلومات الدين ضرورة ودقائق الفقه، ينفخون في كل زلة أو شطحة؛ فيجعلونها أساساً يبنى عليه خبثهم في ترك الدين وزعزعة أركانه، ويتحدثون عن الصحاح كأوعية للخرافات والإسرائيليات وحاجة "كتب التراث" للتنقيح، و"تنقية" الأحاديث المطهرة مما نسب إليها، بكلمات حق يراد بها الشر وصنوفه مما يفتح الأبواب على مصارعيها للنيل من هذا الدين وثوابته وأركانه وصحابته الكرام والكتب التي تلقتها الأمة بالقبول.
هناك أسباب ساهمت في زعزعة هيبة الفتوى وأهلها الحقيقيين في هذا الزمان، من أهمها تسويد الأمر إلى غير أهله في بعض الدول الإسلامية التي تقلد فيها مفتون مناصب ليسوا أهلاً لها من أصحاب العقائد المنحرفة أو الأهواء المتدنية والطامعة في عرض من الدنيا قليل..
هناك الضغط الرسمي في بعض الدول، وهناك أيضا الضغط الشعبي في دول أخرى، يقيس كثير من عامتها رجاحة الفتوى وقوة المفتى بمقدار ما يثبت الحرج لا أن يرفعه عن كاهل الأمة، ومن لا يرى إلا قاعدة سد الذرائع دون غيرها من القواعد.. أو في مقابل ذلك، ثمة من يتوق إلى توسيع مفهوم التيسير الذي جاءت به الشريعة ليشغل حيزاً يجور من خلال تطبيقه على أحكام ثابتة أو شبه ثابتة، وربما الدافع خير من كلا الطرفين، لكن تبقى الأمة معهما حائرة.. ثم تأتي الفتاوى الشاذة التي لا إلى هذه تنتسب ولا إلى تلك تنتمي؛ فتزداد الفتنة شيوعاً..
وهناك أيضاً عامل في غاية الخطورة يتعلق بالطبيعة الانتقائية التي ترجوها بعض الفضائيات من مفتيها والنموذج الذي ترجوه أو الشروط التي تضعها لمن يتصدى لعمل هو أكثر ما كان يرتجف منه سلفنا الصالح وعلماء الأمة العظام، وهو الفتيا التي كانت لهول مسؤوليتها ترتعد فرائس القمم العوالي والجبال الشماء خوفاً من انحرافها عن كبد الصواب والشريعة؛ فبات البعض يستهين بهذه المهمة وينفذها بشكل رتيب، مخيف لنا في كثير من الأحوال.
ولقد استمرأ البعض الاسترسال في الاجتهادات الشاذة حتى غدت بعض الفتاوى مواداً للتندر من العلمانيين والفرق المنحرفة والطاعنين في الشريعة وكتب الصحاح وصحابة النبي صلى الله عليه وسلم، ورضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، بما استدعى وقفة من أولى النهى، وقد بدأت بعض محاولات ضبط مؤشر الفتوى في أكثر من مكان وزمان، ومنه هذا المؤتمر الذي انطلق اليوم في العاصمة الكويتية تحت اسم "الإفتاء في عالم مفتوح.. الواقع الماثل والأمل المرتجى"، ليناقش عدداً من ورقات العمل الهامة في هذا الصدد، وقد يسهم المؤتمر في حل المشكلة الآنية أو يحتاج إلى جهود أخرى، لاضير، بيد أن الطبيعي أن نشعر بالمشكلة أولا لكي تتعدد الأطروحات من بعد في حلها، لأن القضية قد صارت هماً عاماً وتحتاج إلى وقفة حازمة، لأنه الدين ذاته، واستغلال ما يصدر من هنا ومن هناك باللمز والتسفيه قد يجاوز الفتوى ذاتها موضع النقد مهما اختلفنا معها، وإنما يتعدى للثوابت، وهذا ما نحن منه نحاذر، فاللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، ووفق العلماء لتضييق الهوة، ونحن نعلم أن الخطأ وارد في كل عصر وزمان لكن الأمر تعدى النسبة المقبولة في العالم الإسلامي..