أنت هنا

النكبة ألا نستشعر النكبة..
28 ربيع الثاني 1428

خرجوا من ديارهم وهم مئات الألوف حذر الموت، تحت نيران القصف وقسوة التهجير اليهودي لا يألون على شيء..
كانت مصاحفهم أقدس ما يحملونه معهم في طريق هجرتهم القسرية، وكانت مفاتيح أبوابهم عنوان التحدي وعلامة الفأل بالعودة، أو كانت هي الرابط المادي الوحيد الذي يربطهم بمنازل تحفها أشجار الزيتون، ثم ملايين الذكريات والمعاني حملوها منقوشة في ذاكراتهم وذاكرات أجيال ولدت من رحم المأساة وتوارثت المحنة وتقاسمت المعاناة..
أجهزة الراديو يسمعون منها صوتاً ضعيفاً لبن جوريون يعلن إصدار مجلس الدولة الصهيوني المؤقت برئاسته قرار إعلان قيام "دولة إسرائيل"، يكادون ينكرون الصوت أو ينكرون أسماعهم، أوكذا يسلمنا الأهل من حولنا لمصير مجهول.. إن لم نعز عليهم، أفهانت عليهم أرض سار عليها الأنبياء، وخطا الناس عليها يتلون كلمات الله، وزارها الوحي مرات تترا؟!
كيف طاب لهم أو طاب لأبنائهم وأحفادهم أن يسلمونا ويسلموها؟!
قالوا إنها "النكبة"، نعم هي نكبة ألمت بالعالم الإسلامي إذ حل الأشرار بأرض بارك الله فيها فاستأثر بها شذاذ الآفاق وعباد المادة وخبثاء الطوية والحنايا، وأفرغت الديار المسلمة من ساكنيها واقترب البغاة من مسرى الأنبياء.. ونعم هي نكبة أن يتبعثر سكان فلسطين في بلاد العالم وتشعر الأمة كلها بالعجز حيالهم.
إنها نكبة كبيرة، أن تضيع الأرض ويهجّر أهلها، بيد أن النكبة الكبرى تتجاوز ضياع الأرض وإن كانت مقدسة، وتتضاءل حيالها آلام التهجير وقسوة المحتل.. إن النكبة الكبرى، أن تشعر الأمة بالعجز وهي تملك ناصية القوة في قرآنها وحضارتها ورصيدها الإنساني والتراثي، وأن تخور قواها وهي فتية، ويتراجع دورها وهي الرائدة، وتنكسر وهي العالية..
إن تلك لأكبر نكبة يمكن أن تصاب بها أمة، ومثلها أن لا تستشعر الأمة أو لا يستشعر الجمهور الأعظم منها بقدر النكبة التي تحياها، ولا بالهزيمة تعلو محياها..
إن الهزيمة النفسية التي تجعلنا كزبد ذاهب مع كل موجة هي النكبة الحقيقية التي يتوجب أن نلتفت إليها، إذ لم تحدث النكبة الفلسطينية والعربية إلا بنكبة أعظم، ران بسببها ذنب أجرى الهزائم في قنواتنا قبل أن يسيل فيها ماء النكبة.. إن النكبة حُددت ملامحها في جوامع الكلم "ولينزعن الله المهابة منكم من قلوب أعدائكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن (..) حب الدنيا وكراهية الموت".
هذه، جالبة الهزائم وصانعة النكبات.. ولننظر في كل مكان نرى أمارات النكبة.. لا نعيش "ذكراها" بل نحيا معها، تلازمنا كظلنا..
حب الدنيا: أنظمة ترتعد فرائصها لذكر أمريكا وتوابعها..
حب الدنيا: شعوب تريد أن تعيش الكفاف أو الرفاه، ولا تود أن ترى أبعد من أنوفها..
حب الدنيا: رشا تتداول، وربا به يتعامل، وأموال تنفق في غير محل، وعبث في الإنفاق، وغياب مراقبة في الكسب..
حب الدنيا: ضن على الفقير، وضياع للضمير.
حب الدنيا: فضائيات تستأثر بالعيون والأموال..
كراهية الموت: جبن واستخذاء ورضا بالدنية ورقابة داخلية حاجبة لكل كلمة حق يمكن أن تمنع ظلماً أو تجلب حقاً أو تقف لمظلوم في موطن شهامة ومروءة..
كراهية الموت: وكراهية ما يذكر به لأن الجميع إلا قليلا يريد أن يعيش النكبة ولا يخرج منها لأنه في الحقيقة لا يستشعر أنها نكبة، وتلك هي إحدى الكبر وثالثة الأثافي..

وقد "تمتعنا" فضائيات زاحمت النجوم مواقعها بمشاهد عابرة للتاريخ، تحكي نكبة "قديمة" مرت منذ أقل من ستة عقود، وننثر بعدها بعض الكلمات ثم نمضي مطمئنين في نكبتنا التي نعيش بأننا بالكاد قد نجحنا في تذكير أنفسنا بالـ"نكبة".. فما أقبح أن نتذكر شيئاً نحياه فعلاً