أنت هنا

أتوا فأحالوها خراباً
22 ربيع الأول 1428

أمر أذنابهم بحظر مرور المركبات في ذكرى احتلال العاصمة العراقية.. الأرض إذن غارقة في الورود، لا يريدون مزيداً منها تنثر على محياهم من أولئك الفرحين بمقدمهم..
ليس في الأمر سخرية لمن أراد أن يستمر في التصديق، تصديق الخديعة الكبرى أو الأكذوبة الطاغية.
أدمنوا تكرار الكلمة حتى كاد العالم أن يصدقها: إنهم يستقبلونهم بالورود عرفاناً بتخليصهم من ظلم "الطاغية" صدام حسين.. ابتهج العراقيون في اليوم الأول لاحتلال بغداد أو "لوصول طلائع قوات التحالف إلى بغداد"؛ فهكذا يريد الغزاة أن نردد خلفهم ونمنح عقولنا إجازة.
اليوم مع دخول بغداد عامها الخامس الاحتلالي، يحق لنا أن نسترجع بعض المشاهد التي كنا نرى في ظاهرها شراً فكان في حدوثها حكمة لم نعاينها إلا متأخراً كشعوب وجماهير..
كانت الآلة الإعلامية تمارس دورها التضليلي المشين، ولفرط ما يضخ فيها من أموال وما تحميها من قوة عسكرية تمكنها من الوصول إلى مصادر الأخبار واحتكارها ومن ثم احتكار توجيهها؛ فقد صدق كثير من الناس ما كانت تطيره كل يوم من أكاذيب عرفت طريقها للتصديق، ثم ما فتأت أن استبانت سبيل المضللين، واكتشف الناس عظم هذه الكذبة، وتوالت الفضائح الإعلامية، وتوالى انكشاف الزيف وبطلان السحر الإعلامي الغربي، فإذا الناس صارت لا تصدقهم ولا تمنحهم آذانها إلا من فاتته البصيرة.
في محطات كثيرة، تجلى للناظرين حجم اللعبة القميئة التي مارسها الإعلام منذ أن اغتيل شهود جريمة الغزو الأنجلوساكسوني، كطارق أيوب وغيره، ثم شهود الغزو الفارسي كأطوار بهجت وغيرها، ثم جرائم التزييف فيما يخص الخسائر الأمريكية في العراق، وقضية سجن أبو غريب وتوقيتات إبراز فضائحه ودورها في تنفيذ حرب نفسية ضد المقاومة، وحديثها الدائم عن فتح قنوات مع المقاومة لم يتبين وجودها لحد الآن، إلى التسويق لديمقراطية أمريكية عرجاء في العراق، ومن قبل كانت مبررات الحرب أكذوبة إعلامية أمريكية بلعها العالم مقهوراً أو ساكتاً، ثم سرعان ما اكتشف العالم بأسره أن الإعلام الغربي الموجه هو علامة الإفلاس الأخلاقي والمهني، وأن الإذعان له هو من شأن فاقدي العقول والقلوب معاً في أكذوبة أريد لها من بعد أن تسمى "معركة كسب القلوب والعقول".
مركبات العراق معطلة في يوم "ذكرى الغزو"، وهذه أمارة الهزيمة الأخلاقية التي تسبق دائماً الهزيمة العسكرية أو ترافقها، لأن الجميع أضحى ناقماً من هذا الغزو، حتى أولئك الذين جاء الاحتلال ليضعهم كغالبية قسراً على إحصاءات العراق، بدا فريق منهم وكأنه لم يعد يطيق هذا العبث الذي يمارسه الاحتلال؛ فبدأ يتذمر من وجوده واستمراره.
إن الورود لم تنثر على وجوه المحتل بل شظايا الناقمين والمقاومين، والمحتل ذاته بدأ يواجه شروخاً في جبهته الداخلية لم تعد الآن سراً، ووعوده تبخرت بالرفاه، فلا صحة، ولا كهرباء ولا وقود إلا شحيحاً، والأمن ضائع كما الثروة، والتعليم مجازفة..
في عصر هذا اليوم منذ أربع سنوات، كان تمثال صدام يسقط على الأرض، كلون من ألوان من تقديس الذات لم يكن له أن يصمد في وجه عدو، وبدأ مع الاحتلال نوع آخر من التقديس، وهو تقديس العتبات والمشاهد والمقامات.. وهو أيضاً لن يستمر أو يستمر، لأنه كسابقه، زبد يذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس من دفع المحتل بقلوب أشربت الإيمان، ترفع أصابعها بالتوحيد للواحد الديان الذي لا ترضى بأن تصرف أعمالها إلا إليه، فلا تذعن إلا له ولا تخضع لسواه، ولا تحني الجباه إلا له، ولا تخش غيره، من "الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة من الله، وفضل لم يمسسهم سوء، واتبعوا رضوان الله، والله ذو فضل عظيم". [آل عمران/173-174].. أما أولئك، ففيهم دون غيرهم الأمل.
مشهد الزهو بدخول بغداد لدى الأمريكيين، وفي المقابل مشهد الانكسار لدى المسلمين، كان بادياً بقوة في 9 إبريل من عام 2003، فأين منه هؤلاء وأولئك، وقد راغم المسلمون أنوف الغزاة، وهاهم يستقبلون عامهم الخامس، وبين الجمهوريين والديمقراطيين ما بينهم بسبب رعونة قادتهم إلى هذا المصير وإلى حرب الاستنزاف المزمنة.. "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون"